17 سبتمبر 2025
تسجيلخلال العقود الأربعة الماضية عاصرت العشرات من كبار السن من أهل قطر القدماء الذين عاشوا حياة الغوص على اللؤلؤ بجانب حياة البادية وهي من الفترات التاريخية التي تحتاج منا الى توثيق وتأصيل.. وقد وفقت بحمد من الله وفضله في تكوين مكتبة أرشيفية عامرة بالتسجيلات الصوتية والصور النادرة التي ما أزال احتفظ بها حتى اليوم.. وهي بلا شك ثروة قومية تحتاج إلى وضعها مستقبلا في مؤسساتنا الوطنية حفاظا عليها من الضياع والاهمال. وأعلام مجتمع قطر القديم يحتاجون من أصحاب القلوب الغيورة على تراث وأمجاد قطر أن يعملوا نحو الاهتمام بهذا الصرح الثقافي المليء برائحة التاريخ الممزوج بين الموروث الشعبي من ناحية، وبين تسجيل الأحداث القديمة كما حدثت في السابق بفصولها وسيناريوهاتها الجميلة والرائعة دون تغيير.. ولعل الله يسخر لهذا التراث من يهتم به ويرعاه حق الرعاية مع توفير كافة الإمكانيات المادية والمعنوية لخدمته بالشكل الذي يليق بقطر وتراثها البحري والبدوي كما وقع في الماضي دون تحريفه حتى يتعلم منه أبناء اليوم ويستلهمون الدروس والعبر التي تعينهم على ربط الماضي بالحاضر والعمل للمستقبل برؤى معاصرة تجعل من تراث آبائنا وأجدادنا أحد الخطوط الرئيسية التي نسير عليها دون خوف أو تردد وبهمم عالية لا نحيد عنها من أجل الهوية القطرية التي هي أساس بقائنا ما حيينا. ◄ ماجد بن زامل الكواري يعد الراوي والإخباري ماجد بن محمد بن أحمد بن زامل الكواري(1940 - 2020) أحد أبرز الشخصيات القطرية التي عاصرتها - شخصيا - وعشت معها عن كثب.. سواء عبر لقاءاتي المتكررة معه في بيته القديم (في فريق ابن عمران) أو بعد انتقاله لبيته ومجلسه العامر (في منطقة إزعوى قرب الخريطيات) حيث كان كعادته شخصا بشوشا لا تفارقه الابتسامة والطرفة ابدا.. بجانب انه يحفظ المئات من الأحداث والمواقف والاشعار والأمثال والحكم والقصص والالغاز الشعبية وأحاديث السمر التي لا تعوض اليوم بثمن.. كما كان الفقيد – رحمه الله – يلم إلماما واسعا بتاريخ قطر خلال القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين.. خاصة ما يتعلق بحروب قطر القديمة وحياة مجتمع الغوص على اللؤلؤ وما عاناه أهلنا من شظف العيش بحثا عن الرزق الحلال في تلك الحقبة الصعبة بمتطلباتها المستحيلة وصولا للحياة الكريمة المنشودة رغم التحديات التي واجهت جميع من عاش تلك المرحلة بحلوها ومرها.. لكونها سبقت ظهور النفط وتصديره للعالم الخارجي لأول مرة في عام 1949 م.. والفقيد الراحل ينتمي إلى أسرة تعلقت بالغوص على اللؤلؤ وامتلكت الكثير من سفن الغوص وتجارة اللؤلؤ، فجده من ربابنة الغوص وهو أحمد بن زامل الكواري المتوفى عام 1904 م تقريبا وهو أحد ملاك سفن الغوص بشمال قطر.. وكذلك والده محمد بن أحمد بن زامل الكواري المتوفى عام 1998 م وهو من مواليد عام 1904 م.. والراوي ماجد الكواري متزوج وله من الاخوة (2) أحمد وعلي و(3) من الأخوات.. وله عدد من الأبناء (خليفة وعبدالعزيز وإبراهيم وعبدالرحمن ومحمد).. وقد كان يقول إنه تنقل في بعض المدن والقرى في شمال قطر قبل نزوحه إلى الدوحة العاصمة، مثل: فويرط والمرونة والغنية والغارية وعذبة والخيسة (خيسة الزامل) والغشامية وعين سنان.. وغيرها.. وبعد كساد اللؤلؤ وتحول أهل قطر إلى حياة النفط عمل في شركة النفط واستمر فيها لفترة قصيرة ثم انتقل بعدها للعمل في وزارة الصحة حتى تقاعده عن العمل عام 1985 م وكان يحمل حينها درجة كبار الموظفين في الدولة (سنير).. وللوالد ماجد صورة نادرة التقطت تقريبا في سنة 1956 م يظهر فيها وهو في سن مبكرة من شبابه مع السردال وتاجر اللؤلؤ الشهير أحمد بن عيسى الإبراهيم المهندي بجانب محمد الحوطي وحميد بن مرشد المهندي رحمهم الله جميعا. ◄ موسوعة في التراث البحري كان ماجد بن زامل من رموز الثقافة الشفاهية القديمة عبر الإلمام بالتراث البحري في قطر وبشكل متفرد عن بقية الرواة والإخباريين.. فقد عاصر وسمع عن العديد من أحداث تلك الفترة التي عاناها اهل قطر من خلال عملهم في صيد اللؤلؤ ومتاعب البحث عنه، هذا من ناحية.. ومن ناحية أخرى، كان بمثابة موسوعة في الموروث الشعبي والشعر الشعبي خاصة.. ذلك الشعر الغائب الحاضر في نفوسنا.. وقد كان كثيرا ما يردد فنون الادب الشعبي المختلفة وكانت ذاكرته عامرة بما يحفظ من موروثات تعد من النوادر التي قد لا يتمتع بحفظها من يعيش بيننا نظرا لرحيل الرواة من كبار السن ووفاة أغلبهم في وقتنا الحالي. ◄ لقاءات ومقابلات تلفزيونية فبجانب الكثير من التسجيلات الإذاعية مع الفقيد الراحل خلال العقود الأربعة الماضية.. كان تلفزيون قطر من المحطات المهمة في حياته.. فقد أجرى معه عدة مقابلات ما زلت أتذكرها وكنت أحرص على متابعتها وتسجيلها.. حيث تحدث فيها عن: - حياة الغوص والبحر - حياة أهل البادية - سنوات الفقر والجوع - الفنون الشعبية وبخاصة فن النهمة البحرية وطريقة أدائها - المصطلحات التراثية والشعبية القديمة - الألمام بأنساب القبائل وفروعها - أشهر اعلام الغوص ودورهم في المجتمع في تلك الفترة.. وغيرها الكثير. ◄ أشعار الفيحاني ومما يتميز به الإخباري الراحل انه كان من حفظة قصائد شعر قطر الفحل وأبرز شعراء النبط في قطر والجزيرة العربية محمد بن جاسم بن محمد بن عبدالوهاب الفيحاني المتوفى عام 1939 م وبخاصة قصائد الغزل العفيف التي امتاز بها شاعرنا الفيحاني وكانت تردد على كل لسان في زمن الغوص على اللؤلؤ وما زالت باقية حتى وقتنا الحاضر.. خاصة إذا علمنا ان أغلب هذه الأشعار كانت تردد على ظهر سفن الغوص في فترة الصيد والأسفار وهي كثيرة ولا تخفى على أحد.. ومنها قصائده الشهيرة التي مطلعها: - ياللي بروحي رايح - شبعنا من عناهم وارتوينا - هل من بقايا أثر؟ - هيه يا غادي على شبه الظليم - سرى ليلي وانا بالجيل ساري - قصت حبالك من عقب وصلها مي.. وقصائد أخرى. ◄ اهتمامه بفن العرضة ومن خلال إلمامه بالموروث الشعبي فقد كان محبا لفن العرضة أبرز الفنون الحربية التي يؤديها الرجال في المناسبات الاجتماعية والوطنية.. كما كان يردد أغلب أشعارها وشيلاتها الحماسية ويؤديها بلحن جميل اشتهر به دون غيره من الرواة في عصره.. وهي لنخبة من شعراء قطر والجزيرة العربية مثل جبر بن دلهم الكواري وعبدالله بن سعد بن مسند المهندي وسعد بن علي بن مسند المهندي (سعد الشاعر) وراشد بن سعد المطاوعة الكواري وغيرهم. ◄ فن الصوت الشعبي والأمر الآخر الذي يتميز به الفقيد ماجد بن زامل انه كان مولعا بفن الصوت الذي يقاوم اليوم الاندثار.. وهو من الفنون الجميلة التي عرفت في قطر والخليج.. حيث كان يعتز كثيرا بأسماء الرعيل الأول من رواد هذا الصوت الجميل من أمثال: - محمد بن فارس - ضاحي بن وليد - محمد زويد - حمد خليفة - عوض دوخي - عبدالله فضالة - محمد الرفاعي - عبدالله أحمد - عبداللطيف الكويتي - سالم راشد الصوري - محمود الكويتي - يوسف فوني - عبدالله سالم بو شيخة -عبدالله بوغيث - سالم فرج - ادريس خيري - عبدالكريم فرج - إبراهيم علي.. وغيرهم. ولعل أشهر أغاني فن الصوت التي كانت تردد قديما ويرددها الفقيد الراحل، أتذكر منها: " اغنم زمانك، قال ابن الأشراف، يا من هواه، يقول بومعجب، مال غصن البال، على دمع عيني، شيء عجيب يا ولد منصور، أشارت بالمساء، العين هلت دمعها، لعل الله يجمعنا، ملك الغرام، يا غصين البان، يحيى عمر قال، جفني لطيب الكرى، دمعي جرى على الخدود، خيال سرى، مر بدوي صغير السن، يا واحد الحسن، جسد ناحل وقلب جريح ودموع على الخدودتسيح، لمع البرق اليماني، يشوقني برق، مر بي واحترش، متى يا كرام الحي، مر ظبي سباني، الله يا رباه، لك الجمايل، سلموا لي على اللي سم حالي "..وغيرها. ◄ وفي فترة التسعينيات كنت اتردد على زيارة الوالد ماجد أيضا في القلعة (قلعة الكوت) بمدينة الدوحة التي تقع بالقرب من دوار البنك العربي بمحاذاة سوق واقف.. حيث كان يتواجد في كل صباح مع مجموعة من كبار السن الذين يتجمعون من أجل أحاديث الذكريات والعمل على إحياء المجالس القطرية بشكل يعيد لهذه المجالس مكانتها وهيبتها التي كانت سائدة في السابق.. واتذكر الشخص الذي كان ينسق الجلسة ويحضر " افالة الضحى" وتلك الجلسة التراثية المكونة من " القهوة والتمر والجح وبقية الفواكه الأخرى " هو الوالد علي بن عبدالله بن جاسم المسلماني – رحمه الله – وهو عمل كان يتم بإيعاز من وزارة الإعلام في تلك الفترة.. وكان يحضرها الكثير من كبار السن مثل: حارب بن راشد الحارب وبوسيول وسعد بن نايم السليطي وبعض رجال عوائل " إسلطة والموالك والهتمي والمسلماني والبدر والخليفات والبوكوارة والبحارنة " واحيانا كان يحضر معنا الشاعر والطبيب الشعبي سعيد بن سالم البديد المناعي والمطرب الشعبي إبراهيم علي.. وغيرهم.. تغمدهم الله جميعا برحمته.. كما ما زلت أتذكر حديث الوالد ماجد التراثي الشيق خلال تواجده بمجلس مبارك بن محمد العثمان الخليفي في مدينة خليفة الجنوبية.. وكذلك مجلس حسن بن مهنا الخويطر العجمي في نفس المنطقة وأيضا مجلس جاسم بن علي الجواسم الكواري بعد صلاة الفجر مباشرة.. وهي مجالس كلها تتحدث عن التراث وزمن الغوص على اللؤلؤ وسرد الاشعار النبطية الجميلة لمجموعة من شعراء قطر والجزيرة العربية.. مثل: محمد الفيحاني وسعد الشاعر ولحدان الكبيسي وابن لعبون ومحسن الهزاني وابن سبيل وعبدالله بن ربيعة وعبدالله الفرج وحمد بو سطوة الهاجري وعبدالله بن سعد المهندي وماجد بن صالح الخليفي وعمير بن عفيشة الهاجري وشعراء الموال ال بودهيم وسعيد البديد المناعي وصالح بن سلطان الكواري وحسن بن فرحان النعيمي وأمان الشاعر والشاعر الغنائي عبدالله بن اسبيج صاحب الأسطوانات الغنائية الشهيرة.. وغيرهم. كلمة أخيرة كان يوم الثلاثاء 7 أبريل 2020 م من الأيام الحزينة في قطر التي ودعت فيها الراوي والإخباري ماجد بن زامل الكواري حيث ووري الثرى في مقبرة مدينة " فويرط " بشمال شرق قطر الساحلي وهو المكان الذي ولد فيه.. وقد غاب عنا بعد رحلة عطاء في خدمة التراث القطري وموروثها الشعبي الذي ساهم الفقيد في حفظه من الاندثار عبر تدوينه وتوثيقه في إذاعة وتلفزيون قطر وقناة الريان والصحف القطرية.. وكلها – لا شك - ستبقى اليوم شاهدة على عصره لأنها بمثابة الصفحات الناصعة في الذاكرة الشعبية القطرية.. رحمك الله يا (أبو خليفة) رحمة واسعة.. إنا لله وإنا اليه راجعون. [email protected]