11 سبتمبر 2025

تسجيل

السياسة ورجل الدين .. علاقةٌ تحتاجُ لتحرير

13 أبريل 2014

حدّثني أحدُ الأصدقاء في الآونة الأخيرة بالأصالة عن نفسه، وبالنيابة عن آخرين كما فهمتُ من الحديث، مُشفقاً، ومحذّراً بأن الحديث عن افتقار كثيرٍ من الإسلاميين للفكر السياسي المنهجي، يعني وُلوجاً في ساحة المحظورات السائدة في بعض أوساط مجتمعاتنا العربية بشكلٍ عام، والسوري الراهن تحديداً.. خاصة، كما قال الصديق: "وإنك تشمل أحياناً العلماء ورجال الدين في إطار الإسلاميين الذين تتحدث عنهم بشكل عام". وتابع الصديق بأن هذا يمكن أن يُفهم لدى البعض بأنه مطالبةٌ بحظر تدخّل العلماء ورجال الدين في السياسة، بل إن البعض الآخر يمكن أن يُفسّره، ودائماً حسب نقل الصديق، على أنه دعوةٌ إلى فصل الدين عن السياسة!ورغم تفهمّي لمشاعر الصديق وشكري لاهتمامه، غير أنني سارعتُ إلى التأكيد له بأن هناك طريقة في فهم الدين يجب حتماً أن تُفصل عن السياسة.. وبأن هناك أفراداً في المجتمع ربما يحملون بعض الشهادات الشرعية، وربما ينطلقون في طروحاتهم وحركتهم من (إخلاصٍ) ينسجم مع حدود فهمهم، لكن من الواجب قطعاً أن يتمّ رفض مشاركتُهم في صناعة القرار السياسي بأي شكلٍ من الأشكال. على الأقل في رأيي الذي لا أستطيع إصدار قراراتٍ عملية من خلاله، وإنما يبقى مجرد رأي.أكررُ في كتاباتي أن هناك فرقاً دقيقاً وحاسماً، آن الأوان لإدراكه والعمل بمقتضاه، فيما يختص بعلاقة الإسلاميين، ومنهم العلماء ورجال الدين، بالفكر السياسي وبصناعة السياسة. ولقد كان المقصود من الحديث سابقاً في الموضوع، ومن العرض هنا، الإشارة إلى أننا بحاجة إلى السياسي الذي يحمل همّ وطنه وشعبه والبشرية جمعاء من منطلقات حضارية إسلامية، ويفهم هذا العالم بتوازن وواقعية، ويمارس السياسة تنظيراً وتطبيقاً من خلال تلك المنطلقات.وواقعنا المُعقد ليس بحاجة إلى رجل دين يحاول أن يتعامل مع السياسة بناء على مبلغ علمه من الرصيد الشرعي (النقلي البحت في أغلب الحالات)، ومبلغ علمه عن الدنيا الذي يُحصلهُ من مقتطفات من الأخبار والنقولات.أما إذا امتلك رجل الدين خبرة وإمكانات ومعرفة تمكّنه من الحركة في ساحة السياسة بما يحقق مصالح بلاده، وبما يُظهر لأبناء شعبه درجة أهليته لتلك الحركة، فإن أحداً لا يستطيع أن يضع عليه (فيتو) فقط، لأن من صفاته كونهُ رجل دين. ثمة أمثلة في العالم العربي والإسلامي نضرب منها تاريخياً مثال الرئيس الإيراني السابق، والمعارض الإصلاحي الحالي للنظام الإيراني، محمد خاتمي.من هنا، قلت للصديق: هاتوا لنا رجل دين قرأ الفكر العالمي وتَمرّسَ بالفلسفة العالمية وعلّم ذلك في الجامعات. هاتوا لنا رجلاً كان علَماً في ميدان العلم والثقافة والفكر بكل ألوانه من واقع عمله مديراً للمكتبة العامة في عاصمة بلاده.هاتوا لنا رجلاً عايش الغرب وخَبِرَ واقعه وأدرك إيجابياته وكمونه وعرف سلبياته ونواقصه بتوازن ودقة. هاتوا لنا رجلاً عايش الوجود الإسلامي في بيئةٍ غير بيئته المحلية. ورأى بعين اليقين تلك الحيوية الكامنة في تعاليم الإسلام للتعامل مع واقعٍ مختلف ومع أولويات مغايرة. وأبصرَ قدرته على استيعاب ذلك الواقع وتلك المتغيرات. كل هذا من واقع عمله مديراً لمركز إسلامي في الغرب لمدة سنوات كما كان خاتمي.والأهم من ذلك، قلت للصديق، هاتوا لنا رجلاً يدافع عن الحريات ويثق بقوة الإسلام الكامنة، ولا يخاف عليه بكل جلاله من مقالٍ كُتب هنا أو كتابٍ صدر هناك أو قصيدةٍ أُلقيت هنالك.هاتوا لنا رجلاً يصفه، على الصعيد الفكري، الدكتور محمد سعيد العوا في تقديمه لكتاب خاتمي (الإسلام والعالم) بأنه "يمثل الفكر الوسطي المنفتح الذي يرى التعاليم الإسلامية في صورتها الحقيقية: رحمة ونعمة ورفقا بالناس، وتحريراً لهم من القيود، وإطلاقاً لطاقاتهم نحو الابتكار والإبداع، حتى في المجالات التي يرى آخرون أنها قد انتهى فيها الكلام إلى قولٍ فصلٍ لا رادّ له ولا مُعقّب عليه".ويصفهُ، على الصعيد الشخصي، الصحفي جورج ناصيف قائلاً بأنه لا يعرف "من يعلوهُ عذوبة وطفولية وخَفراً"، وبأنه "لا يُشبه جنسه، ولا يُشبه مقامهُ، ولا يُشبهُ موقعهُ" ناقلاً عن زوجته قولها بأنه "كان يساعدها في شؤون المنزل كثيراً يوم كان وزيراً ثم اضطر اليوم إلى الإقلال، لكنه لا يُحجم.. وبأنه محاورٌ دائمٌ لابنتيه الطالبتين"، ثم شارحاً كيف أن "محمد خاتمي، الرجل العذب، بكى.. بكل عنفوان، بكل كبر، بكل نبل، لأنه حنثَ بوعد أو التقى طفلاً بائساً".. وذاكراً الانطباع الذي يتركه الرجل في عيون من يلاقونه بِكَونِهِ "متحفظاً من كل ثقل، طليقاً إلا من طراوته، حراً إلا من قلبه.. متجاوزاً العمارات الفلسفية والفقهية.. وديعاً لا تأخذه عزّة ولا تفتنه غواية سلطة أو مال". ثم ليضع ناصيف كل هذه الصفات في مقابل كثيرٍ من السادة "الناطقين باسم الله كثيراً، الصارخين باسم الله كثيراً، والعابسين باسم الله كثيراً"!.وفي الختام قلت للصديق، هاتوا لنا رجلاً يتحدث عن ملابسات تنوع التركيبة السكانية للبلاد، وعن قضايا الثقافة والتعليم والأمية والفن والأدب، وعن مصادر ووسائل تحريك عجلة الاقتصاد الداخلية والخارجية، وعن مسألة اسمها التضخم وأخرى اسمها البطالة، وعن النظام الضريبي، ونظام الضمان الاجتماعي، وعن توازنات وطبيعة العلاقات الخارجية والقواعد الناظمة لها. ويتحدث عن ضرورة توجيه الجهود والطاقات للتعامل مع هذه القضايا، بالتعاون بين قطاعات الشعب والحكومة، بشعور كامل بالمسؤولية تجاه حاضر ومستقبل البلاد والعباد، دون همزٍ، ولا لمزٍ، ولا شتيمةٍ، ولا تكفير. ودون إلقاء لكامل التبعة فيما يتعلق بالمشكلات على الاستعمار وعلى المؤامرات الدولية، ودون اتهامات بالخروج عن الملة والخيانة، ودون تحريكٍ خاطئ لغرائز الشباب وحماسهم وتوجيهه في الاتجاه الخاطئ.باختصار، هاتوا لنا رجلاً مثل خاتمي فَعَلَ ويفعلُ كل هذا بعد أن وصل رصيده من العلم الشرعي مداهُ، وبلغ غايتهُ، على مدى عقودٍ من الدراسة الشرعية الدينية المتعمّقة. هاتوا لنا مثل هذا الرجل، ونحن لا نقول إنه سيكون ملاكاً لا يخطئ، أو معجزة وكأنها هبة من السماء لا تحتاج لمزيد.وإنما فقط، ابحثوا عنه، واعملوا على إيجاده، ثم قدّموه في الصفوف، وانظروا ساعتها إن كان أحدٌ سيمنعهُ، أو يستطيع أن يمنعه ابتداءً من التفكير بالسياسة والعمل بها بأي أسلوبٍ من الأساليب.