12 سبتمبر 2025
تسجيلهو الشِّعرُ إذن الذي يُلاشي الجغرافيات، ويحطّ رحالَنا هنا وهناك بين أرجاء الأرض، لنشاهدَ المدنَ، ونأتنسَ بالبشر والأمكنة والعادات والتقاليد. الشعرُ جاء بي من القاهرة لأزور "الدوحة" لأول مرة، وأشاهد هذه المدينة الوادعة في حضن الخليج، وتلك التجربة الحضارية التي تقول: إذا الحواضرُ يومًا أرادت أن تكون، كانت، مادام وراءها شعبٌ يتوق للبناء ورفع اسم الأوطان عاليًا. زيارةٌ خاطفة في معية الشعراء، وعلى شرف الشعر، في احتفالية وزارة الثقافة والفنون والثراث، والصالون الثقافي باليوم العالمي للشعر، وفي حضرة الربيع، بما أن الشعرَ ربيعُ الكلمة. ثلاثُ ليالٍ، زادت ليلةً، إذ فاتتني طائرةُ العودة إلى القاهرة. كانت الأبراج الشاهقة الأنيقة بمنطقة "الدفنة"، أول ما لفتني في طريقي من المطار إلى الفندق. ذكّرتني بأبراج منهاتن ونيويورك سيتي، فتوقفت أتأملها، وأسترجع ما درسته من قوانين البناء في قسم العمارة بكلية الهندسة، فاندهشتُ، إذ عرفتُ أنها مبنية على أرض كانت جزءًا من الخليج، تم ردمها، ومن هنا جاء اسمُ "الدفنة". منحتني الأيام الثلاثة التجوالَ في سوق "واقف" ومعرفة الأطباق القطرية الشعبية مثل "المرقوقة"، "الهريس"، "العصيد"، "الثريد"، البرياني"، وتأمل الفنار الكلاسيكي الجميل، وكذلك رحلة بحرية بالخليج الهادئ نظّمتها لي مجموعة من قرائي المصريين بقطر. أما الطائرة التي تركتني، فوفّرت لي فرصة التجول في الحي الثقافي لمشاهدة مركز الفنون البصرية، والمتحف، والمسرح المكشوف على نهج الأجورا الإغريقية، والمكتبة، والمسجد الأنيق، وبرج الحمام الساحر الذي ذكّرني بأبراج الحمام التي تملأ أرجاء الريف المصري. فاتني أن أزور أرض المعارض، كما فاتني التجوال داخل أروقة المتحف الإسلامي، وكذلك المدينة القديمة، أكثر ما يجتذبني في أي دولة أزورها. لهذا رحبتُ بهذه الزاوية بجريدة "الشرق"، التي اخترتُ لها عنوان "ريشة مصرية"، لتكون مصافحتي الأسبوعية للمواطن القطري، والوافد المصري والعربي المقيمين بقطر، نتبادل خلالها فكرة وجودية ما، أطروحة ثقافية أو اجتماعية أو أدبية، بعيدًا عن الشأن السياسي الذي أرهقنا جميعًا، لتكون مثل واحة نستريح فيها من هموم أوطاننا. "ريشةٌ مصرية"، العنوان الثابث الذي اخترته لزاويتي، لأي سبب اخترته؟ ربما هي "ريشةُ ماعت" ربّة العدل في الميثولوجيا الفرعونية. وربما هي "ريشة" يغمسها كاتبٌ في قارورة الحبر، فتخرجُ مُحمّلةً بالأفكار والروئ والحلم بإصلاح العالم. ربما هي "ريشة" طائر يجوب الأفقَ بحثًا عن الحقيقة البعيدة. وقد تكون "الريشةُ" فكرةً نائمةً في كتاب. تفتحه بنتٌ صغيرةٌ تحاول أن تعرف سرَّ الوجود؛ فتتلصص على أفكار الفلاسفة والمفكرين والعلماء الذين مرّوا فوق هذا الكوكب عبر ملايين السنين. تفتحُ أولَ كتاب وهي بعدُ صبيّةٌ نحيلة. وتمرُّ السنوات بها، لنطوي معها آلافَ الصفحات والكتب. وفي الأخير، تغلق آخرَ كتابٍ، وقد غدتِ الصَّبيةُ عجوزًا في الثمانين تعلن، مع طي الصفحة الأخيرة: "سرُّ الكون عَصِيٌّ، سِحرُه أنه لُغزٌ لا يُفضُّ أبدًا." كلَّ أسبوع، سألتقي بكم هنا لأضعَ ريشتي فوق طاولاتكم. مرّةً، ستكون الريشةُ كتابًا جميلا قرأتُه وأودُّ أن أشارك قرائي متعتَه. ومرّةً ستكون الريشةُ قصيدةً من الأدب الغربي، أترجمُها للعربية. ومرّةً ستكون الريشةُ فكرةً احتلّت رأسي، لأشاغبَ بها رؤوسكم، كنوع من "العصف الذهنيّ". "ريشتي المصريةُ" وردةٌ أصافحُ بها وجوهَكم، ونصافحُ بها الحياةَ العذبةَ المُعذِّبة. تعذبنا وتتعذبُ بنا، لكنها لا تبخلُ علينا، بشيء من الفرح، بين الحين والآخر.