13 سبتمبر 2025
تسجيلعادة ما يصل العسكريون إلى مواقع السلطة في أعقاب الانقلابات وليس في أعقاب الثورات الشعبية، ولكن يحدث في مصر أن البعض يطالبون العسكر بالاستيلاء على السلطة بعد أن قامت الجماهير وليس الجيش بثورة مدنية وسلمية شهد لها العالم أجمع. هذه المراهقة السياسية ليست فقط بمثابة محاولة لإفشال الثورة المصرية والانحطاط بها إلى مستوى الانقلابات العسكرية، ولكنها أيضا دفع بالبلاد إلى حالة استبدادية، تشبه تلك التي تحدث عنها المفكر توماس هوبز في كتابه التنين، مرجع الأنظمة المستبدة في العالم كله. وهوبز لمن لا يعرفه هو مفكر انجليزي صاغ في القرن السابع عشر مؤلفات سياسية وقانونية، وضع فيها أسس نظريته عن النشأة الافتراضية للدولة الحديثة، وتذهب هذه النظرية إلى أن الناس كانوا في مرحلة ما قبل الدولة يعيشون حياة يملؤها الضنك والخوف، بفعل عدم وجود سلطة سياسية عليا تفرض القانون على الجميع. وتحت وطأة هذه الحالة اجتمع الأفراد وقرروا التنازل عن كافة حرياتهم وحقوقهم لصالح حاكم واحد، لكي يقوم بتوفير الأمن لهم، ولكنه لم يكن ملتزما أمامهم بأي شيء آخر، وذلك لسببين، الأول: لأنه لم يكن طرفا في العقد الذي تنازل بموجبه الناس عن حرياتهم وحقوقهم لصالحه، والثاني، أنه الضامن الوحيد ــ حتى في حال استبداده أو فساده ــ ألا تصبح الدولة في مهب الفوضى من جديد. وهكذا أوجد الناس ديكتاتورا، يتصرف فيهم كيفما يشاء، ولا يلتزم تجاههم بأي شيء، اللهم إلا توفير الأمن، وحتى لو قصر في هذا الأمر، فإنه لا يكون في مقدور الأفراد الثورة أو الانتفاضة عليه لأنهم بذلك يغامرون بعودة حالة الفوضى الأولى. ما يقوم به الداعون لعودة العسكر لقيادة البلد هذه الأيام يصنع دولة من الطراز الهوبزى، فقياسا على نظرية هوبز، فإن الموكل، وهو في هذه الحالة وزير الدفاع وقائد القوات المسلحة، ليس طرفا في هذا التعاقد أو التفويض، وعليه يكون، حال قبوله لهذه الصفقة، في حل من أي التزامات تجاه من وكلوه، لأن هؤلاء لم يهتموا أصلاً بأن يحتفظوا لأنفسهم بقدر من الحقوق إزاءه، وراهنوا فقط على قدرته على استعادة الأمن ودرأ خطر الفوضى، الأمر الذي يدفع بالبلاد مرة أخرى في اتجاه الاستبداد المطلق الذي لم تكد تستفق منه أصلاً. ولكن بعيدا عن هذه المقاربة الفلسفية، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يمكن فعلياً للجيش أن يمارس الحكم في مصر؟ إن الخبرة السياسية للجيش ليست أمرا مضموناً، فقد مارس المجلس العسكري العمل السياسي على نحو أو آخر خلال الفترة الانتقالية، ولم يكن أداؤه على ما يرام، بل وسجلت عليه العديد من النقاط السلبية، كما أن معادلة الأمن في مقابل السلطة، لا تتضمن حلولاً سحرية للأزمات السياسية التي تأخذ بخناق البلاد، خاصة أن اعتماد الجيش على حكومة من العسكريين لن يمثل حلاً فعالاً في ضوء ضعف الخبرة الفنية للعسكريين في المهام التنفيذية، أما تشكيل حكومة مدنية تعمل في ظل سلطة من العسكريين فسوف يولد بدوره حالة من التضارب في الأهداف وفي برامج العمل. ويرتبط بالعقبة السابقة عقبة الخطاب السياسي، فالملاحظ أن القيادات العسكرية لا تمتلك القدرة على صياغة الخطاب الذي يستطيع استيعاب طموحات الجماهير، خاصة من بين فئة الشباب، والذين يشكلون الفئة الأكبر في التركيبة العمرية للشعب المصري. هذه الفئة لم يعد يستهويها الخطاب العسكري القائم على الأمر والتوجيه، وتفضل نوعية الخطابات المدنية القائمة على الحجة والإقناع. ويرتبط بهذه النقطة إشكالية تراجع الأفكار الكبرى ذات الطابع الشعبوي، والتي كانت الأنظمة العسكرية في الخمسينيات والستينيات تعول عليها من أجل حشد الجماهير. الآن لم يعد بمقدور القيادات العسكرية استعادة مثل هذا النوع من الخطابات السياسية، التي كانت في سياق معين قادرة على توفير غطاء من الشرعية لنمط حكمها الاستبدادي. أما من ناحية الأداء الاقتصادي للجيش، فمن المعلوم أن المؤسسات العسكرية لا تفضل سياسات التنافس السوقي، وتعتمد في أدائها الاقتصادي إما على سياسات التأميم، أو على المساعدات المقدمة لها من الأنظمة الدولية الحليفة، وكلا البديلين تعترضه صعوبات جمة في المرحلة الراهنة، فالدول الكبرى التي كانت مستعدة في الماضي لمساعدة الأنظمة العسكرية تبدو الآن أقل حماسا للعب نفس الدور، كما أن بديل التأميم على المستوى الداخلي من شأنه أن يضعف من الأداء الاقتصادي ويؤدي إلى هروب رؤوس الأموال. أما عن مؤهلات القيادة عند رجال الجيش في هذه المرحلة فليست في أفضل أحوالها أيضا، خاصة أن المؤسسة العسكرية، مثلها مثل بقية مؤسسات الدولة، شهدت حالة من التجريف وإبعاد المواهب على مدار فترة حكم النظام السابق، الأمر الذي يجعل من فكرة تولي أحد العسكريين للحكم في هذه المرحلة أمرا محفوفا بالصعوبات، إذ تعاني المؤسسة العسكرية شحا في القيادات الكاريزمية، القادرة على إلهام الجماهير، أو إلهاب حماستها. وحتى الوظيفة الأمنية والتي يفترض معظم مؤيدي العسكر أن الجيش قادر على القيام بها، أحاطت بها العديد من الشكوك في الفترة التي تولى فيها المجلس العسكري تسيير شؤون البلاد، فطبيعة تدريبات الجيش وطبيعة تسليحه لا تؤهله لحفظ الأمن الداخلي، فالجيش في التحليل الأخير لا يمكنه أن يحل محل قوات الشرطة، ويتذكر معظم المصريين ما حدث خلال أحداث ماسبيرو عندما ترتب على حالة الكر والفر بين قوات الجيش والمواطنين، أن تعرض عشرات المتظاهرين للدهس تحت جنازير المركبات الساحقة. وأخيرا وليس آخرا فإن الأوضاع الدولية ليست في صف العسكريين، فقد انتهت أجواء القطبية الثنائية، التي كانت بمثابة الداعم السياسي والاقتصادي للأنظمة العسكرية في العالم، وأصبح النظام الدولي الحالي يرفع شعارات الديمقراطية الرأسمالية وحقوق الإنسان، وعليه فإنه لن يستطيع، على الأقل على المستوى المعلن، أن يجاهر بتأييده لحكومة عسكرية تتولى الحكم عن طريق الانقلاب على سلطة مدنية منتخبة. يبقى القول إن انصراف الجيش للعمل السياسي يبعده عن مجالات تميزه الحقيقية، ويقلل بالضرورة من كفاءته القتالية واستعداده للحروب، وعلى الجانب الآخر فإن عسكرة الدولة تقضي على الجانب المدني وتخلخل الجوانب الاجتماعية فيها. وقد صار من حقائق التاريخ أن الأنظمة العسكرية تخلف رصيدا من الانتصارات وربما أيضا الهزائم العسكرية، ولكنها لا تخلف تراثا ثقافيا أو اجتماعيا، والمثال الذي يطرحه المؤرخون في هذا الصدد يرتبط بالميراث الذي خلفته كل من أثينا واسبرطة، فالقوة العسكرية المتميزة وفنون القتال هي كل ما خلفته الأخيرة، أما أثينا، والتي كانت دوما رمزا لحكم الشعب الحر، فقد خلفت التراث الأساسي الذي بنت عليه أوروبا نهضتها الثقافية والاجتماعية.