14 سبتمبر 2025

تسجيل

الطبقة المتوسطة الفقيرة تبحث عن ممثلها في تونس (1)

13 فبراير 2015

لا تزال الطبقة المتوسطة التونسية بمختلف شرائحها تقف في صلب جميع الإستراتيجيات السياسية للأحزاب التونسية، لاسيَّما في حالات الأزمات التي تعيشها البلاد (تحديات الإرهاب والأزمة الاقتصادية والاجتماعية)، تتراوح مواقفها بين التضامن مع الطبقات الشعبية والتحالف مع البورجوازية الكبيرة. وقد شهدت هذه الكتلة المتنافرة ذات الدوائر غير المحدّدة تغيّراً جذرياً في صورتها: ففي الخيال الشعبي، حلّ الشاب خرّيج الجامعة ومتصفّح الإنترنيت محلّ الملاّك الصغير ذي الأفق الضيّق. ومن النضالات ضد الاستعمار إلى الثورة التونسية، كانت الطبقة المتوسطة حمّالة للمشاريع الوطنية والتقدمية إلى الأمام.ومع تفاقم أزمة الديون الخارجية التونسية في نهاية العقد الثاني من الثمانينيات وجدت البلاد التونسية نفسها عاجزة عن مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، فلم تجد من سبيل لها سوى تطبيق برنامج التكيف الهيكلي للاقتصاد الذي فرضه صندوق النقد الدولي على كل بلدان العالم الثالث، والذي يستند من حيث الأساس النظري على فلسفلة الليبرالية الجديدة التي يمكن تلخيصها في جملة واحدة، وهي: السوق هي الخير... والدولة هي الشر.. فانخرطت الطبقة المتوسطة التونسية في العولمة الليبرالية منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، حيث جنت البلاد ثروات جلبتها تلك العولمة، واستفادت منها الطبقة المتوسطة الاستهلاكية بسبب التوسّع في سياسة الإقراض لشراء السيارة والمنزل، وحلّ في المقابل الفقر والبطالة ليهمّشا محافظات تونسية بأكملها من جراء انتهاج سياسات تعمق حجم الاختلال التنموي بين حمل شهائد جامعية إلى مستويات غير مسبوقة(250 ألف جامعي عاطل عن العمل)، وسوء الأوضاع الاقتصادية في المحافظات المحرومة والمهمشة في الوسط الغربي والجنوب، وتحوّل الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء إلى هوة سحيقة تطال كل مناحي الحياة، وأهمل أهمية العدالة الاجتماعية كمسألة سياسية أساسية لا يجوز التهاون فيها، واعتمد على السياسات النيوليبرالية الجهات والمناطق. وتجاهل النظام الديكتاتوري السابق وصول معدلات البطالة بين الشباب الذي من دون ضوابط ومن دون التفات كافٍ إلى قضايا توزيع الثروة والبطالة والأمية والفقر... إلخ. وليس عجيباً أنه في ظروف سيطرة الرأسمالي الأجنبي، والاستعمار الاقتصادي والسياسي على تونس، أن يستلزم تشكل وظهور الطبقة البرجوازية الطفيلية طحن الطبقة المتوسطة. وفي الحقيقة التاريخية لا يجوز أن نُحمّل العولمة الليبرالية المسؤولية الكاملة في تدهور أوضاع الطبقة المتوسطة في تونس، ذلك أن جانبا من هذا التدهور حصل بالفعل إبان الأزمة الاقتصادية التي سبقت الموافقة على تنفيذ برامج الإصلاح الهيكلي. ولما كانت الطبقة المتوسطة طبقة غير متجانسة على صعيد شرائحها المختلفة بسبب التفاوت الواضح في مستويات دخولها ومستويات معيشتها ووزنها الاقتصادي والاجتماعي ووعيها الطبقي، فإن سياسات العولمة الليبرالية الجديدة قد أثرت على شرائحها بشكل متباين لجهة السقوط الاجتماعي المفاجئ كما هو الحال في تونس بعد الثورة. وفي الوقت الذي كان فيه التونسيون يُدعون إلى صناديق الاقتراع في خريف العام الماضي، ويبدو من المسلَّم به أنّه سيقوم تحالفٌ بين الطبقات الشعبيّة والطبقة المتوسطة بالنسبة إلى قسمٍ كبير من اليسار؛ تحالفٌ يؤيّد «الجبهة الشعبية» غايتها أن تكون، بحسب التوجّهات، ضدّ الأحزاب اليمينية الليبرالية والدينية الليبرالية، أو بكلّ بساطة «يساريّة»، صوتت الطبقة المتوسطة التونسية بقوة لمصلحة «حزب نداء تونس» في الانتخابات التشريعية الأخيرة، ولزعيمه السيد الباجي قائد السبسي في الانتخابات الرئاسية التي فاز بها، لقناعتها بأن المكسب الوحيد للثورة التونسية الذي تحقق في عهد حكم الترويكا بقيادة حركة «النهضة» الإسلامية، هو تعميم الفقر والبؤس على الغالبية العظمى من الشعب التونسي، بما فيها الطبقة المتوسطة. في حكومات الترويكا تراجع الاقتصاد التونسي بشكل مخيف، حيث وصل معدلات التضخم إلى نسبة 5.6 في المئة، وانهار الدينار أمام الدولار الذي أصبح يساوي 1.9 دينار، لاسيَّما أن العملة الوطنية هي عبارة عن مرآة للوضع المالي والاقتصادي لأي بلد وباعتبار صعوبة الأوضاع المالية والاقتصادية في تونس، فإن النتيجة الحتمية أن تتدهور قيمة الدينار مما يجعل عملية الاستثمار مكلفة. كما وصلت البطالة إلى نحو مليون عاطل عن العمل، وارتفعت الأسعار بمستوى غير مسبوق، في مقابل ارتفاع نسبة من وقعوا تحت خط الفقر31 في المئة، وتدنت قدرة الدولة على تقديم الخدمات للمواطنين، في الوقت الذي كانت الدولة التونسية تتفاخر بأنها تمتلك أحسن إدارة ذات كفاءة عالية على صعيد العالم العربي والإسلامي. ولا شك أن التهرب الضريبي له انعكاسات سلبية على الاقتصاد التونسي خاصة على مداخيل الدولة، لاسيَّما إذا علمنا أن 70في المئة من مداخيل الدولة متأتية من الأداءات الموظفة على الأجراء بينما لا تدفع مؤسسات بعينها ـ رغم مرابيحها الضخمة ـ ما يوظفه القانون من أداءات، إضافة إلى أنه من جملة 3.8مليون نشيط نصفهم ينتمون إلى الاقتصاد الموازي (التهريب) غير المهيكل وهي خسارة أخرى للخزينة.. ويحتكر الاقتصاد الخفي 53.50 في المئة من السوق التونسية، حسب دراسة نشرها البنك الدولي خلال السنة الماضية عن تونس. ويضم في تركيبته فروعاً من النشاط من الباعة المتجولين في أسفل الهرم إلى الشركات غير المقيمة (الأوفشور)، والشركات المصدرة كليا (تسوق جزءا من إنتاجها في السوق المحلية بشكل غير قانوني) والتي تستنزف بشكل كبير رصيد تونس من العملة الصعبة في ظل مرونة عجيبة من القانون التونسي.. ولكن في قمة الهرم يتربع بعض المتنفذين، الذين يتقاسمون مناطق النفوذ والنشاط. ويمثل الاقتصاد الخفي حسب الدراسة المشار إليها 38 في المئة من الناتج الداخلي الخام، ويحتكر 42.2 في المئة من اليد العاملة في شكل تشغيل هش، وثلث النسيج المؤسساتي (مؤسسات صغرى وميكروية يبلغ عددها 52400وحدة حسب بيانات السجل التجاري). وينشط الاقتصاد الخفي في مجال الاحتكار، إذ تقدر القيمة الإجمالية لحصته من المداخيل من هذا الباب بأكثر من 30 في المئة، باعتبار أن زيادة الأسعار لأكثر من عشرين مادة أساسية قد بلغ معدلها سنة 2012، 27 في المئة. ويحتكر الاقتصاد الخفي حسب تقديرات الخبراء 35 في المئة من التداولات المالية في تونس، كما أنه من المؤكد أن دوائر متنفذة مالياً وسياسياً تقف وراءه وتحميه وتوفر له الغطاء المناسب سياسياً وأمنياً وحتى إعلامياً. ويقدر معدل النزيف من الموارد المالية حسب بيانات البنك المركزي التونسي خلال الأربع السنوات الأخيرة بين 4200 مليون دينار إلى 4700 مليون دينار.هذا النزيف يتحول جزء منه إلى الفراديس الضريبية، لاسيَّما سويسرا، حيث تبين الإحصاءات أن حجم تناقص رصيد تونس من العملة الصعبة التي تتداول داخل منظومة البنوك التونسية بلغت سنويا11268مليون دينار (باعتماد سعر التحويل).. وتدل هذه الأرقام أن معدل تبييض الأموال أو رسكلتها في تونس ناهز قيمة 2150مليون دينار سنوياً، باعتماد تدقيق وتحليل معطيات الوضع النقدي وتغييرات مؤشراته العامة. ويتهرب الاقتصاد الخفي من دفع الضرائب للدولة التونسية، بما أن تسويق سلعه يتم عادة خارج الإطار القانوني، إذ إن العائد الجبائي للاقتصاد الخفي لا يتجاوز 1.70 في المئة (مذكرة تنفيذ ميزانية الدولة عن سنة 2014 الصادرة في شهر يناير 2015). أما كتلة الأجور في الاقتصاد الخفي من إجمالي المداخيل، فهي لا تمثل سوى 145 في المئة. كما لا تسهم منظومة الاقتصاد الخفي إلا بنسبة 7 في المئة من القيمة المضافة الاقتصادية العامة(باعتماد سنة 2011 كنموذج).. وتستخدم الموانئ كممر رئيس للتهريب، إذ إن 80 في المئة من التداولات تتم عبر الموانئ، بينما 20 في المئة تتم عبر المعابر الحدودية الليبية والجزائرية.ويقتصر ريع مداخيلها على عائلات المناطق الحدودية. ويلمس المراقب للمشهد السياسي التونسي بوضوح أن الحكومة الجديدة التي ستسير في نهج الليبرالية الاقتصادية المندمجة في نظام العولمة الليبرالية المتوحشة، والحال هذه، فهي ستسير في النهج الاقتصادي نفسه، ومنوال التنمية نفسه اللذين سارت فيهما معظم الحكومات التونسية منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي وحتى يناير 2015، سيزيدان في إفقار الطبقات الشعبية، والشرائح المتوسطة والدنيا من الطبقة المتوسطة.ومن هنا، يبدو جليا أن الطبقة المتوسطة في تونس التي انحازت بقوة لـــ «حزب النداء» الذي قدم نفسه على أنه حامي المشروع الوطني الحداثي في تونس، تبحث في الوقت الحاضر بعد خيبة أملها بسبب إشراك حركة النهضة في الحكم، وهيمنة التوجه الليبرالي للحكومة التونسية على صعيد الاقتصاد، تبحث عن حزب جديد قادر أن يعبر عن تطلعاتها وطموحاتها. فهل تمتلك الجبهة الشعبية القدرة السياسية والفكرية الحداثية، والمشروع الوطني الديمقراطي، لكي تجلب إليها الطبقة المتوسطة التي طحنتها العولمة الليبرالية؟ رغم احتداد الأزمة الاقتصادية في تونس، فإن معوّقات التحالف بين الطبقات الشعبية والطبقة المتوسطة تبقى هي نفسها. فالرهبة التي تثيرها عند شرائح الطبقة المتوسطة مشاريعٌ يعتبرونها راديكالية جدّاً – لاسيَّما من اليسار، أي تلك التي تهدّد مثلاً الملكية الخاصة أو أهميّة الادّخار - تبدو وكأنّها تشكّل دائماً معطى لا يتغيّر. لكن في مراحل الأزمات الحادة، تشجّع الخشية من الانحدار الطبقيّ بالنسبة للطبقة المتوسطة، لاسيَّما عندما تبدو الحكومة التونسية الجديدة عاجزةً إزاءه (هذا عندما لا تكون هي أصلاً مهندسها بشكلٍ مباشر).. تشجّع التحالفات أو اللقاءات بين الطبقات الشعبية والطبقة المتوسطة حول أهداف الإنقاذ العام للثورة التونسية، والتمسك بتحقيق أهدافها، خاصة في مجال بناء اقتصاد وطني منتج، وتحقيق العدالة الاجتماعية. وبدلاً من درسٍ عن الواقعية محبطٍ قليلاً، تقدّم دراسة التجارب الماضية إذن عدداً من المفاتيح التي تساعد في تحديد شروط نجاح تحالفٍ من هذا النوع، سواءً أكان اجتماعياً (مصالح اقتصادية مشتركة نسبياً) أو سياسيّا (رغبة الأغلبيّة من المجتمع التونسي في طرد اليمين بشقيه الليبراليي الديني).. وللمفارقة، فإن تشدّد الفوارق بين الطبقات، وانقطاع الحركيّة الاجتماعية، والطابع الأكثر أقلويّة للنخبة التي تسيطر على الدولة دون الانشغال بمصير الشعوب، كلّ هذا من شأنه أن يشجّع على وحدة مصالح، كثيراً ما أسقطها التاريخ. في الواقع التونسي لا تزال القيادات اليسارية المتنفذة داخل الجبهة الشعبية سجينة الأطروحات الماركسية التقليدية، ولم تطور خطابها لكي يلامس مسائل العصر الحديث، عصر العولمة الليبرالية، لاسيَّما في المهمة المركزية الملقاة على اليسار والمتمثلة في توفير مقومات بناء جبهة ديمقراطية واسعة يكون عمودها الفقري الطبقة المتوسطة - لا «جبهة شعبية» ذات طابع يساري ضيق- تشكل نوعاً من الكتلة التاريخية التي تهدف إلى منع اليمين الليبرالي واليمين الديني، من الهيمنة على مقدرات البلد ودفع البلاد نحو ثنائية موهومة لن تنتهي إلا بتحالف جديد، أو لنقل تقاسم السلطة بين حركة النهضة وحزب نداء تونس. لذلك لا تزال الطبقة المتوسطة المطرودة من السلطة بصفتها الاجتماعية، والفئات الشبابية المهمشة، والعمال والفلاحون هم القوى الاجتماعية المؤهلة لحمل المشروع السياسي الديمقراطي في زمن الثورة التونسية المغدورة، على الرغم مما أصابها من ضعف وتهتك... لذلك لابد أن تتصدى الطبقة المتوسطة باعتبارها تشكل العمود الفقري للمجتمع التونسي على وهنها، وكتلة الإنتلجنسيا لقيادة المشروع الوطني الديمقراطي، وعلى مدى نجاحها في إعادة إنتاج وعي سياسي حديث ديمقراطي، وعلى مدى جسارتها، تستطيع أن تستقطب العمال والفلاحين والفئات المهمشة لمصلحة تحقيق تحالف ديمقراطي، ومن أجل تحقيق أهداف الثورة، في بناء الدولة الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية.