30 أكتوبر 2025
تسجيلفي البداية كانت هناك خلافات تشق الجبهة الشعبية حول الخطة السياسية في موضوع التحالفات، لاسيَّما مع حزب "نداء تونس"، ومع ذلك أظهر الحراك الكبير بعد اغتيال الشهيد شكري بلعيد صلابة وتماسكاً كبيرين بين مكونات الجبهة الشعبية التي تضم رسميا ثلاثة عشر حزبا يسارياً وقومياً، وكانت الجبهة الشعبية تتجه نحو تشكيل قطب يساري بارز ذي وزن انتخابي قد يجد سنداً إضافياً مع التشكيل اليساري الموجود داخل حزب "نداء تونس"، والذي يتزعمه كل من الدكتور الطيب البكوش ومحس مرزوق، وأيضا التماهي الذي أبدته أحزاب أخرى على غرار حزب المسار الديمقراطي (الحزب الشيوعي سابقا)، وحزب القطب الديمقراطي الذي يقوده رياض بن فضل. تمثل الموقف العام للجبهة الشعبية الذي سارت عليه طيلة المرحلة السابقة في إيجاد تقاطعات مع أي طرف سياسي يطرح إسقاط حكم النهضة. وكان هذا محور الندوة الوطنية التي عقدت بمدينة سوسة يومي 1 و2 يونيو 2013، حيث تبلور اتجاه أغلبي يرفض أي تحالف مع حزب "نداء تونس"، مقابل أقلية متمثلة في "حزب العمال" بزعامة السيد حمّه الهمامي، وحزب "الوطنيين الديمقراطيين الموحد"، تدافع عن هذا التحالف. ورغم أن الجبهة الشعبية حظيت بدعم شعبي كبير، كان بإمكانها أن تستثمره لتشكيل قطب يساري بارز ذي وزن انتخابي، فإن قيادة الجبهة الشعبية، وأبرزها الناطق الرسمي باسمها السيد حمه الهمامي، لم يستثمر هذا الزخم الشعبي الكبير لبناء قوة يسارية شعبية تشق لنفسها طريقا ثالثة بين اليمين الديني، واليمين الليبرالي. وعندما حاولت الجبهة الشعبية عقب اغتيال الشهيد محمد البراهمي في 25 يوليو2013، تدارك الموقف، أعلنت "العصيان المدني" في بيان نعي الشهيد البراهمي، مبينة أنها مصممة على إرجاع "الثورة إلى مسارها الحقيقي"، وإنها ستدخل في مفاوضات لتشكيل حكومة "إنقاذ وطني"، بل إنها حددت حتى الوقت الذي سيتم فيه الإعلان عن تلك الحكومة. غير أن ذلك ظل مجرد كلمات لم تنفذ واقعياً، وتتالت المواعيد "الحاسمة" بعد ذلك دون أي حسم يذكر. وظلت الجبهة الشعبية على مدى أشهر تنكر كل إمكانية التحالف مع الجبهة السياسية، التي أعلنها الباجي قائد السبسي مؤسس حزب "نداء تونس" في 29 يناير 2013، بوصفها محاولة لتجميع القوى اليسارية والديمقراطية المشتتة، وسميت تلك الجبهة بـ "الاتحاد من أجل تونس"، الذي ضم الأحزاب التالية: حزب "نداء تونس" بزعامة الباجي القائد السبسي، "الحزب الجمهوري" بزعامة نجيب الشابي، وحزب "العمل الوطني الديمقراطي" بزعامة عبدالرزاق الكيلاني، و"الحزب الاشتراكي الديمقراطي" بزعامة محمد الكيلاني، وحزب "المسار الديمقراطي" بزعامة الدكتور محمد إبراهيم. ورغم أن "الاتحاد من أجل تونس" يضم أحزاباً ليبرالية، وأخرى اشتراكية ديمقراطية، فإن حادث اغتيال الشهيد محمد البراهمي، دفع بالجبهة الشعبية إلى التحالف مع "الاتحاد من أجل تونس" في إطار ما يسمى "جبهة الإنقاذ"، التي تأسست من أجل مواجهة "الفاشية الدينية". وتمثلت أهداف "جبهة الإنقاذ "حسب بيانها التأسيسي في تشكيل "الهيئة الوطنية العليا للإنقاذ الوطني" الممثلة للأحزاب السياسية ومكونات المجتمع المدني التي ستتولى، بالاستعانة بخبراء القانون الدستوري، استكمال صياغة الدستور في غضون شهرين يعرض على الاستفتاء الشعبي تشكيل حكومة إنقاذ وطني محدودة العدد لا تترشح للانتخابات القادمة متطوعة برئاسة شخصية وطنية مستقلة متوافق عليها تتخذ ضمن برنامجها جملة الإجراءات الاستعجالية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية وتعد لانتخابات ديمقراطية، نزيهة وشفافة. وهكذا تحول المشهد السياسي التونسي في صيف 2013، إلى نوع من تحالف الجبهة الشعبية بزعامة السيد حمه الهمامي، مع "الدساترة الجدد" الذين يقودهم السيد الباجي القائد السبسي زعيم حزب "نداء تونس"، بهدف إسقاط حكم النهضة. وتمثل الموقف العام للجبهة الشعبية الذي سارت عليه طيلة المرحلة السابقة في إيجاد تقاطعات مع أي طرف سياسي يطرح إسقاط حكم النهضة. وكان هذا محور الندوة الوطنية التي عقدت بمدينة سوسة يومي 1 و2 يونيو2013، حيث تبلور اتجاه أغلبي يرفض أي تحالف مع حزب نداء تونس، مقابل أقلية متمثلة في حزب العمال بزعامة السيد حمه الهمامي، وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، تدافع عن هذا التحالف. وتذرعت الجبهة الشعبية بأنها غير متحالفة مع حزب "داء تونس"، وأن كل ما في الأمر هو حصول تقاطعات ميدانية بين الطرفين لمواجهة الإسلاميين، لكن الخطوات المؤدية إلى التحالف كانت تتم على قدم وساق. وكانت الجبهة الشعبية تُبرر تحالفها بأن حزب "نداء تونس" لا يمثل الدساترة. غير أن الباجي قائد السبسي، كان واضحاً في إعلان هويته الدستورية و"فكره" البورقيبي قائلاً: إنه كان دستورياً وسيظل كذلك، بل إنه اقترح على السيد حامد القروي رئاسة نداء تونس، وعلى السيد كمال مرجان زعيم حزب "المبادرة" أن يكون فصيلاً من فصائل حزب "نداء تونس". وفي الوقت الذي كان فيه السيد حمه الهمامي، الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية، والرجل المتنفذ فيها، يدافع عن ولادة جبهة الإنقاذ، ويحشد الحجج التي تبرر ذلك التحالف مع "الاتحاد من أجل تونس"، لاسيَّما ضرورة بناء جبهة ديمقراطية واسعة لمواجهة "الفاشية" الدينية، كان اللقاء الذي جمع كلا من السيد الباجي قائد السبسي، والشيخ راشد الغنوشي، إيذاناً بإمكانية التحالف بين أهم حزبين سياسيين في تونس خلال المرحلة المقبلة، ما بعد الانتخابات. ويتفق حزب النهضة الإسلامي وحلفاؤه من جهة، وحزب "نداء تونس" (المنافس القوي لحزب النهضة، والذي يتزعمه السيد الباجي قائد السبسي، رئيس الحكومة السابق) وأغلب مكونات "الاتحاد من أجل تونس" (الذي يضم الأحزاب الليبرالية في تونس) من جهة ثانية، على نموذج الاقتصاد الليبرالي، والانخراط في نظام العولمة الليبرالية من موقع الطرف التابع لمراكز النفوذ السياسية والاقتصادية الرأسمالية المؤثرة في العالم.غير أن هذا الاتفاق لا يمنع وجود صراعات بينهما الآن – ولفترة أخرى من الوقت – مدارها احتكار الحكم السياسي والنفوذ الاقتصادي والاجتماعي من جهة ونوعية النموذج القيمي الاجتماعي للحياة العامة الحضارية والثقافية للشعب التونسي. أثبتت التجربة الماضية أن "الجبهة الشعبية" كانت تعاني منذ تأسيسها ولا تزال من غياب الوضوح الفكري والسياسي الذي يساعدها على بلورة خط وطني ديمقراطي ذي بعد وحدوي ينهل من تجربة النضال اليساري التقدمي في تونس بشكل يجعل برنامجها وتوجهاتها تنحاز لمصلحة القوى والفئات الشعبية من طبقة وسطى وعمال وفلاحين ورأسمال وطني.إذ تصبح هذه الرؤية الفكرية والسياسية ضرورية اليوم في وقت تنحاز فيه أغلب برامج الأحزاب والقوى الحاكمة أو المعارضة الليبرالية إلى خيارات لا تخدم مصالح الطبقة المتوسطة والطبقات الشعبية التي زادتها مرحلة حكم النهضة والأطراف المتحالفة معها فقراً، وسدّت أمامها كل إمكانات التنمية والتطوّر. فعلى المستوى الاقتصادي والاجتماعي، والأيديولوجي، يمثل حزب "نداء تونس" مصالح البرجوازية الكمبرادورية وشريحة من شرائح البيروقراطية، وهي القوى التي فقدت امتيازاتها، وتضررت مصالحها غداة نجاح الثورة، ووجدت في الباجي القائد السبسي ممثل البرجوازية الليبرالية التونسية، المهندس والمنقذ لإعادة الاعتبار للسلطة الدستورية، إذ التفت حوله بقايا من النظام القديم، وقوى إقليمية ودولية، نخص بالذكر منها، الاتحاد الأوروبي. بعد استكمال المسارين الحكومي والتأسيسي، أي تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة السيد مهدي جمعة، وإقرار الدستور الديمقراطي التوافقي للجمهورية الثانية في تونس، يشهد المشهد السياسي التونسي تحولات حقيقية في خريطة الأحزاب السياسية، والتحالفات التي كانت قائمة، إبان الأزمة السياسية الكبيرة التي شهدتها البلاد.. فعلى سبيل المثال؛ أصبح حزب "نداء تونس" أحد المكونات الأساسية لتحالف "الاتحاد من أجل تونس"، وأحد الأحزاب المنضوية أيضا تحت يافطة "جبهة الإنقاذ الوطني"، يرى في نفسه أنه كوّن "اسماً تجارياً كبيراً" في الساحة السياسية، بفضل الشخصية الكاريزماتية لرئيسه الباجي القائد السبسي، إذ يحتل المرتبة الأولى في نتائج سبر الآراء بالنسبة الانتخابات التشريعية المقبلة، ورئيسه في المرتبة الأولى في الانتخابات الرئاسية. في الفترة الماضية شهد حزب "نداء تونس" اكتساحاً غير مسبوق من عناصر قيادية كانت تنتمي في السابق لـ "حزب التجمع الدستوري" المنحل، إذ أصبح الوزير السابق محمد الناصر نائباً لرئيس حزب "نداء تونس"، وعين السيد خميس قسيلة الناطق الرسمي باسم الحزب، بدلا من السيد الأزهر العكرمي المحسوب على التيار اليساري الليبرالي الأمريكي داخل الحزب. ويقول في هذا الصدد السيد عدنان منصر مدير الديوان الرئاسي والناطق الرسمي لرئاسة الجمهورية إن الإقصاء التدريجي لليساريين من حزب نداء تونس توجه سيتدعم أكثر فأكثر في المدة القادمة. وأفاد منصر بأنه حان الآن دور "الخيارات الصحيحة" وهي إعادة حزب "نداء تونس" إلى فضائه الأصلي، العائلة التجمعية الواسعة، وتمثيل النظام القديم في المشهد السياسي المقبل وفق تعبيره. وفي المقابل تشهد الجبهة الشعبية تراجعاً حقيقياً في شعبيتها، بسبب تحالفها مع حزب "داء تونس" الذي انكشف الآن على حقيقته، إذ ظهرت قيادة الجبهة محرجة أمام قواعدها لتبرير التحالف السابق مع حزب يسعى الآن لإعادة إنتاج مكانة النظام السابق، التي أسقطته الثورة قبل ثلاث سنوات.. إضافة إلى ذلك، أن قيادة الجبهة ممثلة بالناطق الرسمي لها، السيد حمّه الهمامي، لا تقبل أي نقد بخصوص التحالفات السابقة، بل إن أطرافاً سياسية مكونة للجبهة الشعبية انتقدت حمّه الهمامي، كان مصيرها الإقصاء من الجبهة، وهذا إن دلّ، فهو يدلّ على غياب العلاقات الديمقراطية داخل مكونات الجبهة، واستفراد حمّه الهمامي بزمام الأمور داخل الجبهة، لجهة أن تكون الأطراف القومية (البعثية)، وحتى حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد الذي كان يتزعمه الشهيد شكري بلعيد، مجرد أطراف تابعة لحزب العمال الذي يرأسه الهمامي، لاسيَّما أن الشغل الشاغل للهمامي في الوقت الحاضر، هو الترشح للانتخابات الرئاسية، وليس إعادة بناء جبهة ديمقراطية تضم القوى اليسارية والقومية وفق برنامج سياسي انتخابي واضح المعالم. بعد انتهاء دور جبهة الإنقاذ الوطني، التي تعد الجبهة الشعبية أحد مكوناتها، هل تعود الجبهة الشعبية للعب دور القوة الجامعة لتوحيد اليسار التونسي الذي لعب دورا كبيرا في إنجاح الثورة التونسية، إذ جاءت عمليتا اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، لإضعاف المعارضة اليسارية، ودفع قسم من اليسار إلى أحضان اليمين الدستوري والقوى الدولية للاحتماء بها، حتى يفقد استقلاليته، ويتنكر لشعاراته.