22 سبتمبر 2025
تسجيللم تدم فرحة المصريين بحمل الرئيس السابق على التخلي عن منصبه سوى أيام معدودة، كانت الأسابيع الخمسة التي مضت بين تسليم المجلس العسكري السلطة والصلاحيات، وبين الاستفتاء على الدستور المعدّل يوم 19 فبراير، حاسمة في رسم العلاقة بين العسكر والثورة، فمع ظهور نتائج هذا الاستفتاء وقعت الصدمة وحصل الانفصال بين الجانبين، ولم تفلح كل المحاولات اللاحقة لرأب الصدع، لم يكن شباب الثورة وحدهم في الاستياء، بدليل أن المجلس العسكري الذي أدرك وجود ثغرات في النسخة الدستورية المستفتى عليها، ما لبث أن حاول سدّها بـ"بيان دستوري" لم يرض الذين شاركوا في الاستفتاء الذي حصد تأييداً بنسبة 77 في المائة للتعديلات. وهكذا مضى العسكر في مسيرة من التخبطات، فلا الحكومة غير المتمتعة بصلاحيات كانت عنصراً مساعداً، ولا القوى السياسية توافر لديها الاستعداد لحل العقد المتكاثرة أمام المجلس العسكري الحاكم. فكان أن صار البلد محكوماً من جانب قطبين: هذا المجلس، وميدان التحرير. ومنذ مطلع أبريل بدأت المواجهات ولا تزال قائمة، من الضغط لاعتقال الرئيس السابق وأعوانه، إلى الضغط لحل الحزب الوطني الحاكم سابقاً واحتواء فلوله، ثم الضغط لبدء المحاكمات، وبعدها لإجبار العسكر على وضع برنامج زمني لتسليم السلطة إلى المدنيين.. مع كل ما رافق ذلك من إضرابات واعتصامات لمختلف القطاعات، بالإضافة إلى مواجهات دامية مع الأقباط. خلال هذه الشهور العصيبة كانت أيام الجمعة وأحيانا الأيام الأخرى، مناسبات ينتقل فيها الشارع من يد إلى يد، فتارة تدعو "جماعة الإخوان المسلمين" إلى التظاهر، وطوراً "ائتلاف شباب الثورة"، وحتى بعدما حددت مواعيد نهائية للانتخابات بدءاً من الثامن والعشرين من أكتوبر، كادت "الوثيقة الدستورية" والخلاف عليها ورفضها كلياً من جانب الإسلاميين تعيد الأمور إلى نقطة الصفر. ولم تتوقف الصدامات بل واكبت عمليات التصويت، ومع سقوط عشرات القتلى وإصابة المئات بجروح استقالت حكومة عصام شرف ليكلف تعيين كمال الجنزوري، ودخوله مكتبه في رئاسة الوزراء بضع عشرات أخرى من القتلى ومئات أخرى من الجرحى، ولا تزال المواجهات مستمرة. لم يكن متوقعاً للمرحلة الانتقالية أن تكون على هذه الصعوبة أو الدموية، كان أداء العسكر قد نبّه الجميع إلى أن النظام الذي ظنوا أنه سقط بسقوط رمزه لم يسقط فعلياً لأنه استند منذ ستين عاماً إلى المؤسسة العسكرية، وبالتالي فإن هذه لم تكن مهيأة نفسياً وعملياً لإدارة شؤون البلاد مباشرة، ولا للذهاب بعيداً في معاقبة النظام السابق ورموزه، لذلك كانت كثيرة التردد في استجابة مطالب الشارع لكنها اضطرت للرضوخ في معظم المرات، ثم أنها في طريقها إلى تسليم السلطة إلى المدنيين وقعت في حيرة أمام الخيارات التي وضعت أمامها، فالذين كانوا يتحدثون عن مرحلة انتقالية باشراف العسكر يمكن أن تدوم سنتين أو أكثر هم أنفسهم الذين أصبحوا في ما بعد من أشد المطالبين بتسليم فوري للسلطة، وعلى رأسهم الدكتور محمد البرادعي، أما "الإخوان" والسلفيون فألحوا دائما على ضرورة الاحتكام لصناديق الاقتراع في انتخابات تجرى في أقرب الآجال. وهو ما لم يؤيده أنصار القوى الليبرالية الذين رغبوا في فسحة زمنية كافية لترتيب صفوفهم وإتمام جهوزيتهم للمنازلة الانتخابية. لكن العسكر حسموا الأمر لمصلحة اقتراع قريب زمنياً، ومع ظهور نتائج التصويت مؤكدة تفوق الإسلاميين، لم يعد هناك أي شك لدى القوى الليبرالية بأن ثمة "صفقة" بين العسكر و"الإخوان". لم تكن هناك صفقة بالضرورة وإنما كانت هناك خيارات وظروف ومعادلات، أما الخيارات فهي أن العسكر لم يخططوا للبقاء في السلطة لذلك كانوا مستعدين للعمل مع كل من يستهل تسليم السلطة، لكنهم رغبوا ويرغبون الآن في التفاهم مع أي جهة منتخبة على مكانة المؤسسة العسكرية ودورها في المستقبل، وأما الظروف ففرضت على العسكر التعامل مع القوى القادرة على مساعدتها سواء في تخفيف الاحتقان في الشارع أو في تأمين الشروط الملائمة لنقل السلطة، ورغم أن الجيش كان يعتبر أنه أقرب إلى القوى الليبرالية، إلا أنه وجدها صفوفاً متفرقة وأفراداً متنافسين متنابذين، وفي المقابل وجد قوى إسلامية مؤطرة وقادرة على الوفاء بتعهداتها، ثم أن المعادلات وضعت الجيش أمام واقع أن الإسلاميين يتمتعون فعلاً بالشعبية والقدرة على تجييش الشارع أو احتوائه، يضاف إلى ذلك أنهم تعاملوا بكثير من البراغماتية مع متطلبات تولي المسؤولية، رغم الاستعراضات الإعلامية التي يقوم بها السلفيون. لكن هذه الحسابات رغم واقعيتها، لم تكن دقيقة تماما، إذ أن "شباب الثورة" ما لبثوا أن استخلصوا وجوب مواصلة الثورة لسببين على الأقل: أولهما الخوف من استمرار حكم العسكر متعايشا مع الإسلاميين، ما يعني احتمال انتقال القمع لتركيزه على الشباب وبعض القوى الليبرالية، والثاني الخوف من أجندة خفية للإسلاميين لابد في نظرهم أن تظهر لاحقاً وأن يكون هدفها تغيير طبيعة المجتمع، ما يعني أن المواجهة معهم يجب أن تبدأ منذ الآن، وإذ جاءت الحملة على التنظيمات الأهلية ذات التمويل الأمريكي في وقت يعزز شكوك هؤلاء الشباب، فإن نزول مجموعات من "شباب الإخوان" للتصدي لمتظاهرين أمام مجلس الشعب ضخَّم بدوره احتمالات أن يلجأ الحكام الجدد إلى قواهم الخاصة لممارسة القمع. وبين فئة تشعر بأن ثورتها صودرت أو سرقت، وفئة تحرص على حماية فرصتها التي سنحت أخيراً، جاءت الدعوة إلى "العصيان المدني" لتكون الذكرى السنوية الأولى لتنحي حسني مبارك تجديداً للثورة المستأنفة. ولا يعني هذا الانقسام سوى أن "العصيان" لن ينجح ولن يحقق هدفه، فبمعزل عن الاستقطاب السياسي لم يبدأ المجتمع مجنداً لهذا التحرك، أولاً لأن المصريين دخلوا مزاج المضي في خطة نقل السلطة ولا يريدون تعطيلها، وثانيا لأن همهم الرئيسي الآن هو الوضع الاقتصادي للبلد، وثالثا لأن الحدس العام لا يميل إلى استعداد الجيش ليبقى عنصر توازن للحكم المقبل، فطالما أنه ماضٍ بلا تلكؤ في ترتيبات تسليم السلطة فلا داعي لافتعال معارك معه، صحيح أن الأزمة المصرية تفاجئ الداخل والخارج بتقلباتها، لكن الأصح أن الخروج من تكلسات حكم دام ثلاثة عقود لا يمكن أن يحصل من دون آلام وصعوبات.