13 سبتمبر 2025

تسجيل

في فن التملق وثقافة الرقابة الذاتية

13 يناير 2018

 تثير ممارسات الإعلام العربي هذه الأيام الكثير من التساؤلات والملاحظات حول القيم والمبادئ والأخلاق المتعارف عليها في مهنة المتاعب سواء محليا أو دوليا. فهل هذا الإعلام وُجد لتبرير الأخطاء وتشريع الفساد والاستبداد والظلم وشيطنة الأخر والتشويه والتضليل والتعتيم؟ أم أن لديه مسؤوليات ومهام أشرف وأنبل. من دون أدنى شك العالم العربي بحاجة إلى إعلام حر قوي وفعال وبحاجة إلى إعلاميين أكفاء ومؤهلين للقيام بدورهم الاستراتيجي في المجتمع على أحسن وجه. هذا يعني أن المؤسسة الإعلامية والصحافي بحاجة إلى مناخ ديمقراطي وإلى قوانين شفافة وواضحة تحمي المهنة والصحفيين من أصحاب النفوذ السياسي والمالي والانتهازيين والمستبدين، الذين يستعملون المنابر الإعلامية لفرض أجندتهم وأفكارهم ضاربين عرض الحائط مقومات الإعلام النزيه والمسؤول والملتزم.   فلماذا لا تكون المؤسسة الإعلامية في الوطن العربي مؤسسة مسؤولة وحرة وفاعلة تساهم في البناء من خلال الكشف عن الحقائق وتوفير منابر للرأي والرأي الآخر. لماذا لا تُعطي المؤسسة الإعلامية الإمكانيات اللازمة حتى تلعب دورها الاستراتيجي والفعال في المجتمع، لماذا يُنظر دائما للمؤسسة الإعلامية على أنها خطر ومصدر مشاكل عديدة ومتنوعة للسلطة؟  لماذا لا يحظى الصحافي بالثقة ولا يعطى الوسائل والظروف اللازمة حتى يؤدي رسالته على أحسن ما يرام ويقوم بمهمة الإعلام والإخبار والتحقيق والكشف عن النقائص والتجاوزات والسلبيات والأمراض الاجتماعية بمختلف أنواعها وأشكالها ومهما كان صاحبها ومصدرها بكل حرية ومسؤولية وشجاعة. والغريب في الأمر أن في الكثير من الدول العربية نجد القادة وكبار السياسيين وأصحاب السلطة والنفوذ يتغنون بحرية الصحافة ويطالبون بالحاجة الماسة إليها ودورها الاستراتيجي في المجتمع وهم من الأوائل الذين يعملون على تكميم وتقييد المؤسسات الإعلامية والسيطرة عليها بمختلف الطرق والوسائل والأساليب والآليات..  تعتبر حرية الصحافة والديمقراطية وجهين لعملة واحدة، فلا نظام ديمقراطي بدون منظومة إعلامية قوية وفاعلة ومشاركة في الحياة السياسية وعملية اتخاذ القرار. وأهم العراقيل التي تقف حاجزا أمام حرية الصحافة في معظم الدول العربية و الدول النامية القوانين الجائرة و الصارمة التي تحد من إبداع الصحافي ومن عطائه، أضف إلى ذلك أن معظم قوانين النشر و المطبوعات و تشريعات الصحافة تفرض على القائم بالاتصال ممارسة الرقابة الذاتية أو الحذف الذاتي و هكذا تصبح الآلة الإعلامية عالة على المجتمع بدلا من أن تكون عنصرا فعالا  تسهم في محاربة الآفات الاجتماعية و تشارك في تنوير الرأي العام و إشراكه في الحسم في القضايا المهمة و العديدة في المجتمع و هكذا تصبح المؤسسة الإعلامية حبيسة مكبلة  في يد القلة الحاكمة التي تجعل منها المنظر لشرعيتها  ولقراراتها و سياساتها سواء كانت صائبة أم مخطئة و المشرع لبقائها و استمرارها. . حرية الصحافة ترتبط كذلك بالكثير من المعطيات والمستلزمات التي يجب أن تتوافر في المجتمع ومن هذه المستلزمات فلسفة ونظرة السلطة والمجتمع لوسائل الإعلام، كذلك النضج السياسي والممارسة السياسية لدى الشعب، وكذلك وجود الجمعيات السياسية القوية وجماعات الضغط والمجتمع المدني والجمعيات بمختلف أنواعها وأشكالها.   تكمن جدلية حرية الصحافة والديمقراطية أساسا في أن الأخيرة تقوم أساسا على الاتصال السياسي وحرية التعبير والفكر وصناعة الرأي العام التي تقوم على التدفق الحر للآراء والمعلومات والمعطيات، الأمر الذي لا يتحقق إلا بوجود إعلام يراقب وينتقد ويكشف ويحقق. فالأطراف الفاعلة في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية بحاجة إلى وسائط إعلامية ومنابر للمعارضة والاختلاف في الرأي، والتعبير عن وجهات النظر المختلفة...الخ. إن أي تراجع في حرية الصحافة يعني تراجع في الديمقراطية وتاريخ حرية الصحافة في العالم يؤكد فكرة التأثير المتبادل بين الديمقراطية والصحافة. فالأنظمة السياسية الدكتاتورية أو السلطوية لا يمكنها أن تفرز إلا صحافة بدون طعم ولا ذوق ولا هوية، صحافة تكون بعيدة كل البعد عن الشارع وعن واقع الجماهير العريضة في المجتمع. ونفس الشيء يمكن قوله عن تلك الأنظمة التي لا تؤمن بالتعددية الحزبية وبحرية الرأي والتعبير. فصحافة هذه الأنظمة تكون دائما أحادية الاتجاه تخدم من يشرف عليها ويمولها ويسيطر عليها. إلى متى تبقى قوانين النشر والمطبوعات وقوانين الإعلام في الوطن العربي جائرة ومستبدة؟ إلى متى تبقى هذه القوانين والتشريعات قوانين عقوبات وإجراءات تعسفية ضد الصحافي الذي لا حول ولا قوة له؟ فهذه القوانين كان من المفروض أن تنظر في الجهات التي تحتكر الكلمة والصوت والصورة للاستغلال والتزييف والتملق والتهميش وتعاقبها، هذه القوانين كان من المفروض أن تضع الخطوط الحمراء التي لا يجب أن تتجاوزها السلطة السياسية والمالية في التحكم والتلاعب في المؤسسات الإعلامية كما تشاء ووفق مصالحها وأهدافها.  ما زالت    السلطة في الدول العربية تنظر إلى المنظومة الإعلامية والمؤسسة الإعلامية على أنها أداة لتثبيت شرعيتها وبسط نفوذها وتمرير خطابها السياسي بعيدا عن طموحات الجماهير ومطالبهم. السلطة في الوطن العربي ما زالت بعد لم تستطع بناء المؤسسات اللازمة لضمان المشاركة السياسية الفاعلة ولضمان رأي عام قوي وفعّال. وكنتيجة حتمية لكل هذا فإنها فشلت كذلك في بناء نظام إعلامي إيجابي وفعال وليس سلبيا ومفعولا به، نظام إعلامي يؤمن بالاتصال الأفقي ويعمل على إشراك مختلف الشرائح الاجتماعية في العملية السياسية وفي اتخاذ القرار، نظام إعلامي همّه الوحيد هو كشف الأخطاء والعيوب وتقديم الحقيقة للرأي العام وليس التلميع والتملق والتنظير للسلطة السياسية والمالية. وما دام أن ثقافة الرقابة والرقابة الذاتية ما زالت سائدة ومنتشرة في ربوع الوطن العربي فلا مجال للكلام عن حرية الصحافة وعن السلطة الرابعة. الوطن العربي بحاجة إلى إعلام يكون وسيلة للحرية والعلم والمعرفة والتفكير والإبداع والاختلاف في الرأي ومنبر للسوق الحرة للأفكار؛ إعلام لا يكون وسيلة للسيطرة والتحكم والتلميع والتملق والتنظير والتلاعب والتضليل والتعتيم والتشويه. تحديات الألفية الثالثة كبيرة وجسيمة وتتطلب إعلاما قويا وصناعات إعلامية وثقافية قوية وفاعلة سواء على المستوى المحلي أو الدولي فحرية الصحافة هي أساس كل الحريات في المجتمع، وهي حجر الأساس لأي بناء ديمقراطي في المجتمع.