28 أكتوبر 2025
تسجيلهو سؤال ثقيل الوطأة بامتياز: ما الذي حدث للربيع العربي وأين آلت ثوراته التي منحت الشعوب العربية آمالاً عريضة في إمكانية الخروج من أنفاق الاستبداد والفساد والتخلف التي حشرتها فيها أنظمة "دولة الاستقلال"؟ وهو السؤال الذي يحاول الأكاديمي والباحث الألماني "إيبرهارد كينلة" وزميلته "نادين سيكا" الأكاديمية اللبنانية مواجهته والتأمل فيه، في كتاب صادر حديثا بالإنجليزية بعنوان: "الانتفاضات العربية: التغير والتحدي"...The Arab Uprisings: Transforming and Challengeتتفاقم وطأة السؤال بالتوازي مع سرعة الحدث المدهشة وتاريخيته.. ففي مساحة زمنية قصيرة اندلعت انتفاضات شعبية غير مسبوقة، وسقطت أنظمة راسخة، واهتزت عروش أنظمة أخرى، وانتصرت ثورات، ثم ما لبث وأن هُزمت. الأسوأ والأكثر دهشة هو عودة من سقط من الأنظمة، وقد ازداد شراسة وعنفاً. يُضاف إليه أن الأنظمة التي اهتزت استبداداتها هنا وهناك تعلمت الدرس "الانتفاضي" فراجعت إستراتيجياتها في مواجهة شعوبها وإطالة عمرها وأمدية تسلطها. ما الذي حدث إذن؟ ولماذا نجحت ثورات كثيرة في طول وعرض تواريخ شعوب وبلدان العالم، في حين أدار ذلك النجاح ظهره للعرب؟ لن تترك هذه الأسئلة أحدا يرتاح وخاصة ممن تفاءلوا بتلك الانتفاضات الشعبية العفوية، وأملوا باندحار حقبة وانبلاج أخرى.يجمع كينلة وسيكا في هذا الكتاب عدة مساهمات أكاديمية رصينة تقدم مقاربات ومحاولات للإجابة على تلك الأسئلة الصعبة، وللبحث في الجذور التاريخية والسياقات المختلفة التي وفرت نجاحاً أولياً هنا أو هناك، كما في مصر وتونس، أو تحولاً صراعياً دامياً، كما ليبيا وسورية. ثم كيف أثرت موجة الانتفاضات العربية على الوضع القائم للأنظمة المحافظة والملكية، حيث أربكتها في المرحلة الأولى، لكن عززت من حضورها وربما شرعيتها أمام شعوبها في مرحلة لاحقة. يُقرر المحرران ابتداءً ما هو مقرر من أن حالات البلدان العربية سواء لجهة دراسة ثوراتها أو أية جوانب أخرى فيها تتصف بالتشابه الذي يميزها عن دول مجاورة غير عربية أخرى، لكنها تتباين في الوقت ذاته عن بعضها البعض بما يستوجب الحذر من تطبيق مفهوم معين أو إطلاق حكم عام يطال "العرب" أو "الدول العربية" وكأنها كتلة مصمتة واحدة. تتجسد أهمية هذا التقرير الابتدائي والنظري وتحذيراته ونحن نقرأ ونقارن بين ما كتبه فرد لوسون في الفصل الثالث حول "إعادة النظر في الاقتصاد السياسي للانتفاضات العربية: مقارنة بين الجزائر واليمن"، وما كتبه جون شالكرافت متسائلا عن "أي تغيير يمكن أن ينجزه الاحتجاج: الفاعلية وحدودها في الانتفاضات العربية".. المقاربة الأولى تحاول أن تعيد الاعتبار إلى منظور الاقتصاد السياسي في فهم العوامل المسببة للانتفاضات العربية، وكذا العوامل التي أفشلتها. ويرى لوسون أن معظم الأدبيات التي تناولت الربيع العربي فشلت في استكناه أثر الأزمة العالمية المالية في سنوات 2008 و2009، وما نتج عنها من كساد في التجارة الدولية، وزيادة معدلات البطالة في الشرق الأوسط، وبالتالي مساهمتها في تفعيل العوامل الانتفاضية. وهكذا وبسبب الترابط والتبادلية الاقتصادية العالمية فإن البلدان العربية تأثرت مباشرة من تلك الأزمة، وقاد ذلك إلى ضغوطات داخلية متراكمة ومتسارعة انفجرت على شكل الربيع العربي. تنتمي هذه المقاربة إلى نوع التحليل الفوقي والإجمالي الذي يفترض ترك المنعكسات والظروف الناتجة عن تحول عالمي أو إقليمي ذات الأثر على الأطراف المخلتفة. وهنا ثمة افتراض مُستبطن بالتالي، وشبه رياضي، بأن الوحدات المتأثرة، أي الدول والمجتمعات هنا، متجانسة ومصمتة وشبه موحدة في طرائق استجاباتها، كما هي دول الربيع العربي جراء الأزمة العالمية المالية.على الطرف الآخر وشبه النقيض من التحليل تأتي مقاربة جون شالكرافت التي يرى فيها أن الفهم الأدق للربيع العربي ونجاحه أو فشله يجب أن يتأتي من قراءة كل حالة على حدة، أي النظر إلى الاختلافات والتباينات وليس افتراض التشابه المصمت أو الغالب. وأن التحليل المُبدع والمبادر لكل انتفاضة شعبية، ثم لكل انقلاب عليها، ودراسة الظروف المحيطة والتحولات التراكمية هو الذي يفيدنا في نهاية المطاف. لكن وقبل قراءتي لوسون وشالكرافت، هناك فصل تأسيسي مهم قدمه روجر هيكوك بدأ فيه النقاش بمتابعة الثورات الأوروبية الشهيرة في منتصف القرن التاسع عشر، وتمحيص ظروفها التاريخية السياسية والاقتصادية، كل على حدة، والوصول إلى "نماذج" محددة يمكن الاستفادة منها وقياس الانتفاضات العربية عليها. والجهد الذي قام به هيكوك في "مقارنة ما لا يُقارن"، كما هو عنوان فصله، يستحق التقدير لما فيه من جهد سوسيولوجي واقتصاد سياسي وتاريخي، ومقاربة تأملية صعبة بين حقبتين وعامين مختلفتين تماماً: 1848و 2011. يلي ذلك مقاربات تومسا ديملهوبر، الآن ديكوف، إيبرهارد كينلة، ونادين سيكا، حول الملكيات في الخليج وشرعية بناء الدول، وعودة انبعاث الملكيات العربية، والاحتجاج الشعبي وتحول شكل الدولة بشكل عام (كينلة)، وفي مصر وسوريا تحديداً (سيكا). تتعمق هذه القراءات في مصائر الربيع العربي ودينامياته الداخلية والارتدادات التي أنتجها وحالة السيولة الجيوإستراتيجية والسياسية التي تولدت عنه، وهذا ما يُسجل لها ولمحرريها. ما يُؤخذ عليها هو تهميشها لدور الفاعلين الدوليين، سواء دولا كبرى أو إقليمية، في التأثير في تلك المصائر، مقابل التوغل في تحليل آليات الاقتصاد السياسي والبنى الداخلية التي لا أحد بطبيعة الحال يُجادل في جوهريتها. لكن المثال الليبي والسوري يقدمان دليلا كبيرا على أن العامل الخارجي، الدولي والإقليمي، كان الحاسم في إنجاح الثورة في مرحلتها الأولى (ليبيا)، وفي إفشالها في ما بعد مرحلتها الأولى (سوريا)، ثم في تعطيل قيام نظام ناجز وفعال بعد انتصارها، كما هو المثال الليبي ثانية.