13 سبتمبر 2025

تسجيل

في إشكالية الموضوعية وفبركة الأخبار

12 أكتوبر 2013

تعتبر إشكالية الموضوعية من المواضيع الشائكة في أدبيات علوم الإعلام والاتصال، حيث إنها كانت ولا تزال على الدوام موضوع جدال ونقاش واختلاف كبير بين العلماء والباحثين والمهتمين بالشأن الإعلامي. والكلام عن الموضوعية هو تمويه وتبرير لممارسة، مهما كانت نية صاحبها للتجرد من الذاتية ومن الانحياز لطرف على طرف آخر. إلا أنها في واقع الأمر ممارسة لا يستطيع صاحبها أن يتجرد من الذاتية عندما يفضل عنصرا في القصة الخبرية على عنصر آخر أو حتى عندما يرتب العناصر المختلفة في الخبر. بحيث يتم هذا الترتيب وفق أولويات يحدد هو أو تحددها معايير مهنية قد لا تكون موضوعية. هذا ناهيك عن السياق والخلفية والإطار الخاص والعام الذي تقدم من خلاله الأخبار والأحداث اليومية. والقائم بالاتصال، مهما كانت حرفيته ومهنيته والدرجة العالية من الأخلاق والنزاهة التي يتحلى بها إلا أنه يبقى إنسانا له أيديولوجية معينة وإطار مرجعي محدد وخلفية وجذور وميول وأفضليات وأولويات وتأويلات وأفكار مسبقة وصور نمطية. فهناك أحداث كبيرة عبر التاريخ كشفت عن الانحياز الأعمى لصحفيين كبار على الصعيد الدولي، ليس لصالح الحق والحرية والاستقلال وإنما لصالح التمويه والتشويه والانحياز للقوى الغاشمة الظالمة. فالموضوعية المطلقة في الصناعة الإعلامية ضرب من الخيال وأمر بعيد المنال. فالمفهوم يبقى نسبيا ومتفاوتا من بلد لآخر ومن ثقافة لأخرى. فمنهم من يرى أنه لا يقصد بها الموضوعية الكاملة وإنما على الأقل هي عملية وموقف وطريقة تفكير. فالموضوعية هي غاية يطمح أن يحققها أي صحفي في العالم، لكن إدراكها في الواقع ليس سهلا على الإطلاق. فحسب هربرت ألتشول ميثاق الموضوعية في النظام الرأسمالي ما هو إلا وسيلة للمحافظة على النظام العام والترويج للأيديولوجية الأرثوذكسية الرأسمالية. إن مجرد تقديم وجهتي نظر الطرفين في القصة الخبرية لا يعني بالضرورة الموضوعية. حيث إنه إذا تم تقديم الطرفين من دون سياق ومن دون إطار وإذا كان طرف على عكس الطرف الآخر غير قادر على تقديم وجهة نظره بطريقة مقنعة وقوية ومنطقية فهذا يخل بالموضوعية والمبادئ التي تقوم عليها. بالنسبة لـ"غاي توكمان" الموضوعية هي طقس إستراتيجي "strategic ritual" من طقوس الممارسة الإعلامية يستعملها الصحفي للدفاع عن نفسه من الاتهامات التي قد تُوجه له في تحريف وتشويه الواقع. توكمان ترى أن المؤسسة الإعلامية هي مؤسسة اجتماعية ومثلها مثل المؤسسات الأخرى في المجتمع لها هيكلها البيروقراطي ونظامها القيمي. الممارسة الإعلامية مثلها مثل الممارسات الأخرى في المجتمع تقوم على مجموعة اتفاقيات conventions تحدد ما يجب أن يُنشر وما يجب أن يُرمى في سلة المهملات ويُلغى ويتم إقصاؤه من ساحة العلنية. وبهذا يصبح مفهوم الخبر مفهوما ذاتيا، حيث قد يكون حدث ما خبرا لجريدة أو لجهة معينة وقد لا يعني شيئا لجهات أخرى. فالخبر هو ما يشمه ويحدده الصحفي، فلا يوجد هناك تعريف محدد شامل ومانع للخبر يصلح لكل الدول والثقافات والحضارات وحتى لقوى مختلفة ومتنوعة داخل الإطار السياسي والاقتصادي الواحد. وعلى حد قول الصحفي الأمريكي الشهير "ديفيد برنكلي": "الأخبار هي التي أقول عنها إنها أخبار". فميثاق الموضوعية ما هو إلا خدعة كبيرة للرأي العام ولجماهير القراء ومستهلكي وسائل الإعلام لإقناعهم بأن هذه الأخيرة تقوم على الحرفية والمهنية وعدم الانحياز والالتزام بالحقيقة وتقديم وجهات نظر الطرفين أو الأطراف الضالعة في الخبر. فيرى ألتشول مثلا، أن في قضية واترغيت ورغم الضجيج الإعلامي الكبير والانتقادات الكبيرة التي وُجهت للرئيس نيكسون، رغم كل ذلك فشلت المؤسسة الإعلامية الأمريكية في الكشف عن عيوب وسلبيات مؤسسة الرئاسة الأمريكية وفي الأخير انتُقد الرئيس ولم تُنتقد الرئاسة وفي النهاية أُجبر نيكسون على الاستقالة، وراح ضحية النظام أو ما يسمى عند الأمريكيين بالإستبليشمنات Establishment. من جهة أخرى، نلاحظ أن ميثاق الموضوعية يكون صالحا في حدود الدولة فقط، لكن عندما ينتقل الموضوع إلى نزاع بين دولة الصحفي أو المؤسسة الإعلامية ودولة أخرى، فتصبح الموضوعية أسطورة وخرافة. وهنا تصبح المؤسسة الإعلامية والصحفي غير ملزمين بتقديم وجهتي نظر الدولتين محل النزاع. فالصحفي ينحاز بطريقة أوتوماتيكية لبلده وإذا قدم أطروحة البلد الخصم يصبح خائنا وغير وطني وغير ملتزم بخدمة وطنه. وهذا ما أكدته الأحداث التاريخية كتعامل الإعلام الفرنسي مع حرب التحرير الجزائرية، أو تغطية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، أو الصراع بين أمريكا وكوبا، أو حرب الخليج الثانية والثالثة...إلخ. يفرض منطق التعددية الديمقراطية على وسائل الإعلام إعطاء نفس الفرص ونفس المساحة لمختلف القوى السياسية والاقتصادية في المجتمع. لكن وسائل الإعلام، ومع الأسف الشديد، تعمل وفق ضغوط وقيود خفية تقصي كل ما من شأنه أن يحاول التغيير في المجتمع أو يهدد النظام الاجتماعي والنظام السياسي والاقتصادي. وكنتيجة لهذه الآليات الخفية والميكانيزمات المحددة سلفا، فإن وسائل الإعلام تقوم بالدور الإستراتيجي في عملية التحكم الاجتماعي، حيث إنها تعمل كعميل للنظام القائم. وبهذا المفهوم، فإن ميثاق الموضوعية نفسه ما هو إلا ميكانيزم للتحكم الاجتماعي. بالنسبة لرجال السياسة تعتبر وسائل الإعلام الوسيط الأساسي والإستراتيجي للوصول إلى الجماهير العريضة للتأثير فيها وتكوين وتشكيل الرأي العام الذي يتبنى آراءهم وأفكارهم ووجهات نظرهم وبذلك برامجهم. فالسياسي الناجح هو ذلك الذي يحسن التعامل مع وسائل الإعلام والذي يعرف كيف يمرر خطابه السياسي عبر وسائل الإعلام بلباقة وبمهنية عالية. فالعلاقة بين وسائل الإعلام والحياة السياسية تشكل عنصرا هاما من عناصر فهم الرهانات المرتبطة بتطور الديمقراطيات العصرية. تؤثر وسائل الإعلام في الحكام والمحكومين، فوسائل الإعلام تغير القوانين التقليدية للعبة الديمقراطية، فسمعة السياسي تحددها بدرجة كبيرة الصورة التي يكونها ويصنعها لنفسه من خلال وسائل الإعلام. هذه الصورة يجب أن تكون متناغمة ومتناسقة مع الصورة المقدمة والصورة التي تدركها الحشود والجماهير. فإدارة الصورة تعتبر ظاهرة رئيسية ومحورية في جعل الحياة السياسية ظاهرة إعلامية، أي تتناولها وتناقشها وسائل الإعلام باهتمام بالغ وبتركيز كبير. من جهة أخرى نلاحظ أن التغطية الإعلامية لنشاط السياسيين وعملهم اليومي تترك آثارا كبيرة على الجماهير والمتتبعين للفعل السياسي الذين يقومون بمتابعة نشاط السياسيين ومدى تطابق أقوالهم مع أفعالهم. وحسب ليبمان فإن الأخبار لا تعكس الحقيقة، بل تفبرك الواقع: الأخبار والحقيقة ليسا الشيء نفسه، ولا بد من التمييز بينهما. فوظيفة الأخبار هي الإشارة إلى حادثة، ووظيفة الحقيقة هي إظهار الحقائق المخفية وربط الواحدة منها بالأخرى، ورسم صورة للحقيقة يستطيع الناس أن يتصرفوا بناء عليها. لا يتلقى الجمهور صورة كاملة في غالب الأحيان عن المشهد السياسي، بل يحصل بدلا من ذلك على سلسلة مختارة للغاية من الومضات أو اللمحات وتكون النتيجة في النهاية تشويه الواقع. وحسب والتر ليبمان هناك تضارب بين الديمقراطية والممارسة الإعلامية اليومية، حيث إن وسائل الإعلام لا تقدر على تأدية وظيفة التنوير العام. لا تستطيع وسائط الإعلام تقديم الحقيقة بموضوعية، لأن الحقيقة شخصية وتستوجب الكثير من الدقة والتمحيص والتفسير والتأكد والتدقيق، الأمر الذي لا تسمح به صناعة الأخبار التي تتطلب السرعة الكبيرة والمواعيد الدقيقة التي لا ترحم. فحسب والتر ليبمان، الجمهور لا يحصل على صورة كاملة ووافية وشاملة للمشهد السياسي ؛ بل يتلقى بدلا من ذلك مجموعة أو سلسلة من الومضات أو اللمحات التي تفبرك هذا المشهد السياسي أكثر مما تعكسه. وبذلك يفبرك الواقع ويُقدم للرأي العام بالتناغم والتناسق مع مصالح القوى السياسية والاقتصادية في المجتمع. نستنتج مما تقدم أن وسائل الإعلام تعيق الديمقراطية أكثر مما تخدمها، لأن الديمقراطية تقوم على السوق الحرة للأفكار وعلى الرأي والرأي الآخر، الأمر الذي فشلت وتفشل وسائل الإعلام في تحقيقه في أرض الواقع.