02 نوفمبر 2025

تسجيل

تركيا وسياسة الجدران العازلة

12 أكتوبر 2013

عندما وردت الأنباء بأن تركيا باشرت في تشييد جدار عازل على امتداد عدة كيلو مترات وبارتفاع مترين على الحدود مع سوريا في إحدى المناطق ذات الغالبية الكردية على جانبي الحدود (في نصيبين تحديدا) قفز إلى الذهن فورا لدى كل من قرأ الخبر، الجدار العازل الذي تقيمه إسرائيل مع الضفة الغربية والذي يفصل بينها وبين الشعب الفلسطيني. لا تهدف المقارنة هنا أو التذكير بسابقة سياسة الجدران العازلة إلى التشهير بتركيا أو بأي بلد يمكن أن أن يلجأ إلى هذا الخيار. ذلك أن الولايات المتحدة أقامت سياجا على امتداد حدودها مع المكسيك. وربما تكون هناك أمثلة أخرى على ذلك، البعض قام بها لأسباب أمنية والآخر لمنع الهجرة غير الشرعية. غير أن الخطوة التركية تقع في مكان آخر ويحتاج إلى كثير من الجهد الفكري والصبر النفسي لهضمه وتقبله، هذا إذا وصلنا أصلا إلى مرحلة التقبل والهضم. لعل من أخطر تداعيات "الربيع العربي" هذه العواصف التي عصفت بالنفوس والتي دفعت بكل قبيلة وعشيرة ومجموعة اتنية ودينية ومذهبية إلى أن تبحث عن ملاذ لها في بيئتها وأهلها. فافتقدت الشعور بالأمان مع "الآخر"، الذي ليس سوى شريكها على امتداد آلاف السنين في الأرض والمصير والمأكل والملبس والأفراح والأحزان. فطفقت تلك المجموعات تبحث عن "كيانية" معينة تعتقد واهمة أنها ستحميها من غدرات الجار قبل العدو. وقد انزرعت هذه الذهنية في مجتمعات كثيرة وكان اللبنانيون أول وأبرع من طبقوها، بحيث إن المجتمع اللبناني اليوم عبارة عن "كانتونات" واقعية لا تحتاج سوى إلى تشريع قانوني لتتحول إلى فيدراليات رسمية. فالجغرافيا اللبنانية عبارة عن تجمعات جغرافية ذات صفاء ديني أو مذهبي لا يعدم وجودا محدودا لـ"الغريب" فيها. لقد استغرقت عملية إعادة التواصل والانفتاح بين العرب والأتراك جهودا مضنية بعد عقود العداء التي تلت الحرب العالمية الأولى والتي لا يزال الأتراك يعتبرون أن العرب غدروهم فيها، فيما كانوا لا يرومون سوى حقوقهم القومية التي لم يشأ العثمانيون إعطاءها لهم، فثار العرب في ثورتهم الكبرى المعروفة في العام 1916. غير أن الربيع العربي قد أطاح بكل مسار التواصل بين العرب والأتراك وعادت النظرة العدائية والشكاكة بين الطرفين وانهارت الثقة التي بنيت ودخل الطرفان مرحلة جديدة وخطيرة لا أحد يمكن أن يتصور كيف تمكن إعادة بنائها بعدما سقطت في أول امتحان من التحدي. ولا يختلف الأمر عن العلاقة بين الترك والكرد، حيث تعرض الأخيرون لأبشع أنواع التصفية والصهر العرقية من جانب أتاتورك وخلفائه وكل الطبقة السياسية التركية من علمانيين وإسلاميين على حد سواء. ومع نشوء واقع كردي جديد في شمال سوريا، منذ أكثر من سنة، انفجرت "الفوبيا الكردية" لدى السلطة الحاكمة في أنقرة كما لدى المعارضة السياسية وظهر خطاب يصور كما لو أن تركيا ذات الـ 73 مليونا باتت تحت خطر وجودي من ظهور "كيانية" كردية من جانب مليوني كردي سوري. فكانت خطوة إقامة جدار عازل من الباطون في منطقة نصيبين، ليس لمنع تسلل مواطنين سوريين إلى تركيا، بل لمنع التلاقي بين أكراد تركيا وأكراد سوريا على جانبي الحدود في تلك النقطة بالذات. إذ إن عبور النازحين السوريين يتم يوميا وبالآلاف وبرضا الحكومة التركية وعلى امتداد الحدود البالغ طولها 900 كيلو متر. إن اللجوء إلى سياسة الجدران العازلة ليس حلا لأي مشكلة أمنية ولا سكانية لتركيا. فالحدود طويلة جدا ولا يمكن بناء جدران عازلة على امتدادها. كما أن الحل ليس ببناء جدار هنا وجدار هناك بل بإزالة الجدران العالية والسميكة التي ترتفع في داخلنا تجاه الآخر. فالكردي في تركيا كما في سوريا هو في النهاية إنسان وله الحق بالعيش بلغته الأم ومنبره وجامعته ومدرسته وكتابه وأبجديته وإذاعته وله أن يمارس حقه في التعبير عن هويته السياسية. والخالق لم يخلق الحياة للشعوب ذات الغالبية السكانية من عرق معين أو دين معين على حساب الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية. إن الحل للمشكلات بين المجتمعات المتداخلة أو المتجاورة ليس برفع الجدران عالية، بل بالبحث عن أسبابها. لقد عاشت شعوب هذه المنطقة في العموم معا على أراض شاسعة لا حدود بينها امتدت من بلاد خراسان والهند إلى الأندلس وصولا إلى العمق الإفريقي. فكيف لنا أن نقبل الآن بجدار لا يذكّرنا إلا بإسرائيل العنصرية والعدوانية ولا يخدم سوى المشروع التفتيتي الصهيوني في تمزيق الأمة الواحدة ماديا ونفسيا؟.