18 سبتمبر 2025
تسجيلمما يُحكى عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، أن ابنة صغيرة له دخلت عليه باكية في يوم عيد، فسألها عمر: ما يبكيك؟ فقالت: كل الأطفال يرتدون ثياباً جديدة، وأنا ابنة أمير المؤمنين أرتدي ثوباً قديماً ! تأثر عمر لبكائها ورق قلبه، شأنه شأن أي أب، فذهب إلى مسؤول بيت المال يستأذنه في صرف مستحقاته أو راتبه الشهري مقدماً أو ما نسميها اليوم، سلفة بضمان الراتب.. لم يمانع المسؤول المالي أو وزير ماليته في تلبية الطلب، لكن سأله عن السبب، فقص عليه عمر قصة ابنته.. عاد المسؤول المالي وقال لعمر: لا مانع عندي يا أمير المؤمنين ولكن بشرط ! ولك أن تتخيل الموقف. وزير مالية يشترط على رئيس الدولة ! قال عمر: وما هو؟ قال: أن تضمن لي أن تبقى حياً حتى الشهر القادم، كي تعمل بالأجر الذي تريد صرفه مسبقاً ! فأعاد عمر النظر في الطلب، ثم تركه وعاد إلى بيته. فسأله أبناؤه: ماذا فعلت؟ قال: أتصبرون وندخل الجنة جميعاً أم لا تصبرون ويدخل أبوكم النار؟ قالوا نصبر! لا أستغرب القصة مطلقاً، فكلنا يعلم من هو عمر بن عبد العزيز، الذي أعاد سيرة جده لأمه الفاروق عمر بن الخطاب، الذي تحفل سيرته بقصص هي أشبه بقصص الخيال.. أن تكون صاحب القرار الأول في الإمبراطورية. تسيطر على أموال وأملاك. الإمبراطورية كلها بمن فيها تحت إمرتك، ثم تخاف من صرف درهم أو دينار، بل تستأذن قبل الصرف، وتدري أنه لن يسألك سائل لم تصرف وفي ماذا ستصرف، بل قبل ذلك من يجرؤ على السؤال؟ لابد وأنت تتأمل القصة، تصل إلى نتيجة مفادها أن تربية العُمرين لم تكن اعتيادية، ونفوسهما لم تكن في مستوى النفوس البشرية، وربما هي من أسباب خلود ذكراهما إلى يوم الناس هذا والى ما شاء الله أن يكون.. إنهما نموذجان أعرضها بشكل مختصر من بين آلاف النماذج الأخرى الكثيرة في تاريخنا القديم وكذلك المعاصر، التي تستحق أن تكون نماذج للتربية بالاقتداء أو الإدارة بالنماذج، كما نطلق عليها في دوراتنا التدريبية هذه الأيام. تلكم القصة وهذه الجزئية من الحديث عن النماذج، تدعونا لطرح مسألة الحاجة إلى إبراز القدوات الصالحة في تاريخنا مرة بعد أخرى، والاستمرار في عرضها على الأجيال الناشئة بكل الطرق والوسائل، في ظل الانفتاح السريع على العالم، حيث تعددت القدوات للناس وتنوعت، بحسب أعمارهم وميولهم وثقافاتهم وبيئاتهم المحيطة.. فما عادت القدوة في وقتنا الحاضر كما كانت في سالف الأيام، تلك الشخصية البارزة الراقية المثقفة المهيبة، سواء كانت على شكل صحابي أو تابعي أو قائد عسكري أو رئيس دولة أو أستاذ جامعي أو عالم دين أو غيرهم من قامات بشرية. إن أي إنسان منا بحاجة إلى قدوة تكون أشبه بمنارة يهتدي بها ويسير على دربها، وأحسبُ أن أي أحد منا في أعماق نفسه يوجد شخص ما يضعه كمعيار أو قدوة، به يقوّم تصرفاته وسلوكه وأفعاله وأقواله.. اليوم بفعل تأثير وسائل الإعلام المتنوعة ولاسيما المرئية منها، بالإضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي عبر شبكة الإنترنت، تحول الرياضي إلى قدوة، والممثل السينمائي يزاحمه، بالإضافة إلى المطرب والمذيع التلفزيوني وغيرهم كثير كثير، الأمر الذي يفيد أن القدوة اليوم لم تعد قاصرة على النوعيات القديمة التي ذكرناها آنفاً مع هذا الانفتاح.. من يعرف من الجيل الحالي أمين هذه الأمة، أبي عبيدة الجراح مثلاً أو سعد بن أبي وقاص أو سعد بن معاذ أو خبيب بن عدي أو الحسن البصري والشافعي، أو غيرهم من السلف والخلف كثير، لا يتحمل المقام المحدود هنا إلى حصرهم فضلاً عن ذكرهم؟ لن تجد سوى القليل ممن يعرف تلك القامات البشرية، والسبب هو هذا الانفتاح الهائل على العالم، وبالتالي رؤية شخصيات تتجسد أمامهم ليلاً ونهاراً في صور شتى ومجالات عدة، رياضية وفنية وثقافية وغيرها، وعبر وسائل الإعلام أو التواصل الاجتماعي.. النقطة الجوهرية في المسألة التي أريد التركيز عليها، هي ضرورة أن يهتم أحدنا بنفسه أولاً قبل أن يلتفت إلى أبنائه ومن حوله من الأحباب والأصدقاء والزملاء، وضرورة اختيار القدوة المناسبة، قبل أن يبدأ بدعوة غيره إلى الاقتداء بمن يقتدي أو من على شاكلته. هذا الأمر ثانياً يقودنا إلى نقطة أخرى مهمة، ونحن أمة حباها الله بآلاف القدوات الصالحة والجديرة بالاقتداء، منذ أن ظهرت على الأرض إلى اليوم، وهي أهمية أن ننشر سيرهم ونعرضها أحسن عرض وفي أجمل صورة على الأجيال الحالية، باستخدام نفس الأدوات والوسائل التي يشتهر عبرها قدوات هذا الزمن.. هذا يلقي بعبء كبير على عاتق وسائل إعلامنا في إبراز النماذج الصالحة للاقتداء، ومعها كذلك مناهجنا التربوية التعليمية، التي لابد أن تكون ثرية عامرة بتلك النماذج والقدوات في جميع المراحل التعليمية الثلاث. وإن صحابة رسولنا الكريم أولى الناس بذلك، والبدء بهم قبل غيرهم أجدى وأنفع، ثم الذين يلونهم من التابعين وتابع التابعين وغيرهم من العلماء والقادة والمفكرين، ومن سار على دروبهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.. إن من فضل الله علينا نحن المسلمين، وقد وصلنا إلى خاتمة هذا الموضوع، أن جعل الله لنا أشرف خلق الله محمد بن عبدالله - عليه أفضل الصلاة والسلام - خير قدوة وأسوة. ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ).. فمن كانت قدوته الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - هل يحتاج إلى غيره؟ وقد يبدو سؤالاً عاماً كبيراً يدعوني لأكون أكثر منطقية، وأطرح بالتالي سؤالاً أكثر محدودية : كم منا من قدوته الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم؟ الإجابة متروكة لكل واحد منا.. [email protected]