11 سبتمبر 2025

تسجيل

وين العرب وين

12 سبتمبر 2015

للصورة لغة موحدة يفهمها جميع الشعوب باختلاف أنواعهم ومشاربهم وتوجهاتهم، من دون اللجوء إلى ترجمة الكلمات ولما تختصره من كلام بين السطور، إن الصورة تحمل دلالات ظاهرية وأخرى باطنية، خفية ولكل مشاهد قراءته الخاصة. يعيش العالم اليوم عصر الصورة بامتياز نظرا للتطور التكنولوجي وللسرعة الفائقة التي عرفتها الثورة المعلوماتية والمعرفية ونظرا لعامل الوقت الذي أصبح ثمينا وغير كاف لمعظم أفراد المجتمع ، وخير دليل على أهمية الصورة ودورها في المجتمع وتأثيرها في الرأي العام ذلك الحراك السياسي الذي شهده العالم العربي خلال السنوات الماضية الأخيرة، الأمر الذي أكد وبرهن على تراجع التقارير الإخبارية والمقالات الصحفية عن دورها نسبيا مقارنة بالصور والفيديوهات التي أصبحت وسيلة العصر لمخاطبة الضمائر والعقول والتأثير في الجماهير. هذا لا ينفي أن هناك بعض الأطراف والجهات التي تغتنم بعض الصور المفبركة وتوظفها لمغالطة الرأي العام وتحقيق ما تصبو إليه بطرق غير نزيهة وغير أخلاقية، في ظل الحرب الإعلامية، وخاصة في ظل تطور التكنولوجية الرقمية، الصورة أصبحت وسيلة التواصل الأمثل بامتياز وأصبحت الطريقة المثلى للتأثير في الرأي العام محليا ودوليا. لعبت الصورة عبر التاريخ دورا محوريا في تشكيل الرأي العام والتأثير فيه وبذلك التأثير في صانع القرار وفي القرار نفسه. الصورة تنقل أدق تفاصيل ما يجري في العالم من حروب وأزمات ونزاعات ومآس، ولأن الصورة بألف كلمة فإنها تجسد بين طياتها وحيثياتها وتفاصيلها حجم المأساة والكارثة الإنسانية، وتحمل رسائل قد تساهم في تغيير مواقف الدول وآراء الشعوب ومواقفها مما يجري حولها وفي العالم وهي بذلك تساهم في تشكيل الرأي العام وتحديد مواقف الناس من قضايا عديدة. ولا ننسى هنا أن الصورة تحدد تصرفنا وسلوكنا في العديد من الأحيان. لم تمر الصور البشعة التي جسدت مأساة الطفولة البريئة، والتي تناقلتها وكالات الأنباء العالمية وأكبر مواقع التواصل الاجتماعي خلال السنوات الأخيرة من دون أن تحرك مشاعر مئات الملايين بل المليارات من البشر في جميع أنحاء المعمورة، صورة الطفل السوري “إيلان”، ثلاث سنوات، الذي لفظته أمواج البحر بأحد شواطئ تركيا في 1 سبتمبر الجاري فضحت العالم بأسره، عالم تحكمه أنظمة همها الوحيد هو السيطرة والهيمنة والتحكم في السياسة والاقتصاد، الصورة تعكس هلاك طفل بريء قضى بمعية العشرات من اللاجئين في عرض البحر الأبيض المتوسط مؤخرا بسبب الظلم والبطش وتعنت النظام السوري وغطرسته والصراع المحتدم بين القوى الفاعلة في النظام الدولي حول مصير الأزمة السورية ومنطقة الشرق الأوسط، بعد هروبه مع أسرته في زورق من ويلات الحرب السورية إلى تركيا، لم يجد الطفل إيلان البريء سوى أمواج البحر العاتية التي حرمته من براءته من العيش واللعب مع أقرانه والتمتع بطفولته. مع الأسف الشديد عالم الحروب والأزمات وعالم الدكتاتوريين والطغاة حرمه من ذلك وأجبره على المغامرة والمخاطرة بحياته من أجل تفادي ويلات الحرب والبطش والجوع والحر والبرد وانعدام الأمن والأمان.فصورة هذا الطفل مازالت تثير تفاعلا كبيرا سواء في وسائل الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي. لتفرز موجة من الحزن والغضب، ومن مساءلة الضمير والذات ولماذا يحدث كل هذا في عالم يتوفر على الخيرات والنعم ويتسع لمليارات من البشر.أسالت صورة الطفل السوري إيلان الكثير من الأحبار وشغلت مساحات كثيرة من شبكات التواصل الاجتماعي وأبكت الكثير من الأمهات وذوي الضمائر الحية في جميع أنحاء المعمورة. كما أزعجت العديد من تجار الحروب والأسلحة ومدبري الأزمات والكثير من الساسة والرؤساء والحكام وصناع القرار في العالم. الصورة بألف كلمة كما يقول الصينيون والصورة تتكلم لنفسها ولا تحتاج إلى تعليق. صورة إيلان الكردي تعبر عن البراءة، تعبر عن عالم انتشر فيها الظلم والاستبداد والحروب والأزمات والنزاعات . صورة تعبر عن عالم يكتظ بالخيرات ونعم الله، لكن يموت فيه الملايين جوعا. صورة إيلان أثارت عدة قضايا وإشكاليات أهمها تعامل دول العالم مع اللاجئين الفارين من نيران الحرب ومن الأوضاع المعيشية المزرية ومن انعدام الأمن والأمان. الصورة كشفت عورة الدول الأوروبية التي تتغنى بحقوق الإنسان وحقوق اللاجئين وضحايا الأزمات والحروب والتي أوصدت أبوابها أمام لاجئين فارين من ويلات الحرب. الصور من بعض الدول الأوروبية كانت تعبر عن قمة التجرد من الإنسانية والمسئولية وأدنى قيم الكرم والضيافة. بعض هذه الدول الأوروبية مدانة تاريخيا للكثير من دول العالم الثالث بسبب تاريخها الاستعماري الملطخ بالدماء والبطش والظلم والاستغلال. بعض هذه الدول الأوروبية قسمت الدول وتسببت في تجويع وتجهيل شعوب مستعمراتها وقضت على نسيجها الاجتماعي والاقتصادي وحتى الثقافي والديني واللغوي. الدول الأوروبية الاستعمارية تسببت في مآس كثيرة في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا...الخ. وقبل لوم بعض الدول الأوروبية عن موقفها في احتضان اللاجئين السوريين وغيرهم، نتساءل أين العرب من كل هذا؟ وماذا فعلوه لهؤلاء المساكين المشردين المعذبين فوق الأرض. مع الأسف الشديد نلاحظ أن معظم الدول العربية بقي لمدة سنوات عديدة يتفرج على الكوارث والأزمات والمآسي التي لحقت بالشعوب العربية وإعلامها يلوم في تقاريره وتعليقاته المواقف السلبية للدول الغربية إزاء اللاجئين العرب. أين هي جامعة الدول العربية؟ وماذا فعلته للاجئين العرب. وهل هناك استراتيجية وبرنامج عمل وخطة للتعامل مع مثل هذه المعضلة التي عانت وتعاني منها دول عربية عديدة منذ الفترة الاستعمارية. وإن كان الحال السوري مأساويا، فإن الأوضاع في فلسطين لا تقل ألماً والتي جسدها الطفل الفلسطيني سعد الدوابشة، الذي استشهد حرقاً في يوليو الماضي جراء هجوم لمستوطنين على منزل عائلته، وإضرام النار فيه بالضفة الغربية، وهي الجريمة التي أودت كذلك بحياة والده ووالدته وإصابة شقيقه الذي يبلغ من العمر أربع سنوات بحروق من الدرجة الثالثة. بينما لا تزال صورة الطفل الفلسطيني “محمد الدرة” شاهدة على جرائم إسرائيل، والذي استشهد في أحضان والده في الثلاثين من شهر سبتمبر عام 2000 برصاص الاحتلال الإسرائيلي في غزة. صورة إيلان الكردي صرخة البراءة، فالصور التي تداولتها وكالات الأنباء العالمية تبقى بمثابة امتحان صعب لقيادات العالم من مختلف مواقعها وتوجهاتها، بعد أن تكون قد وضعت الجميع أمام الأمر الواقع. وبات الكل من موقعه مطالبا بإعادة النظر في جملة من الأمور المتعلقة بالطفولة أملا في حمايتها من الغطرسة والاستغلال والهلاك الأكيد. فصورة الطفل إيلان ليست حالة شاذة مما بات يستدعي حقيقة تفعيل القوانين والمواد المنبثقة عن ميثاق الأمم المتحدة وعملا ميدانيا كبيرا من المنظمات الدولية لمواجهة ومحاربة كل من تخول له نفسه اغتصاب واستغلال البراءة لتحقيق أغراض دنيئة حتى ولو تطلب الأمر تطبيق الأساليب الردعية. إن الحد من مثل هذه الممارسات يتطلب إرادة سياسية عالمية قوية داعمة لما تبذله المنظمات العالمية من مجهودات ميدانية، كما بات من الضروري استغلال تلك الصور والاستعانة بها في الـتأثير في الرأي العام الدولي من أجل حماية البراءة ومحاربة تجار الحروب والأزمات.