15 سبتمبر 2025

تسجيل

جوهرة العالم

12 سبتمبر 2013

العنوان أعلاه هو لكتاب من تأليف ماريا روزا مينوكال، أستاذة اللغة الإسبانية والبرتغالية في جامعة ييل الأمريكية، وهذا الكتاب من أجمل وأروع الكتب التي قرأتها، فالكتاب يتحدث عن الأندلس بشكل عام وعن قرطبة كمدينة متطورة في عصر الظلام الأوروبي، دعوني أنقل بعضا مما كتبته المؤلفة عن هذه المدينة. كانت قرطبة في بداية القرن العاشر مكانا مدهشا، وقد وجد المعاصرون والمؤرخون عبئا في تسجيل عجائبها، ابتداء من ثرائها ورفاهيتها وبوجود 900 حمام عام بها، وعشرات الألوف من المحلات التجارية ومئات وربما آلاف المساجد، والماء الجاري في قناطرها، وطرقها المعبدة والمضاءة ليلا..... قرطبة كانت معروفة بقوتها العسكرية ومتعها التي لا تحصى.... كانت مكتبة الخليفة لوحدها تحوي أربعمائة ألف كتاب في وقت كانت أكبر مكتبة في أوروبا المسيحية تحوي أربعمائة كتاب فقط، لم تكن مكتبة الخليفة هي الوحيدة في قرطبة فقد كانت هناك سبعون مكتبة أخرى، وكان في سوق المدينة سبعون منسخا مكرسا لنسخ القرآن فقط.... لقد كان فهرس مكتبة قرطبة لوحدة عبارة عن 44 مجلدا، به معلومات عن 600 ألف مجلد. انتهى. الكتاب يأخذ القارئ منذ بداية الفتح الإسلامي للأندلس وحتى نهاية هذه الدولة التي ظهرت واختفت كالحلم، ببداية سعيدة ونهاية مميتة. ثم تطرقت الكاتبة للأسباب التي جعلت المدن الأندلسية ومنها قرطبة تصل إلى هذا المستوى من التحضر والتمدن والعلم ثم حصول ذلك التحول الدرامي والسقوط في هاوية الصراعات الدينية والعرقية لتنتهي هذه الدولة بعد حوالي 600 سنة إلى مجموعة من البؤساء المشردين الذين لا يملكون من متاع الدنيا سوى ما جعلوه في صرر يحملونها إلى أكتافهم بانتظار أن تحملهم سفن إلى أرض غريبة. لم تكن الدولة في الأندلس دولة دينية، بل كانت دولة مسلمة، بمعنى أنها كانت تجمع كل الطوائف بها وتعاملهم معاملة واحدة أمام القانون، ولكل من هذه الطوائف الدينية أن تدير شؤونها الخاصة في الزواج والميراث والأعياد والعبادات وغيرها، لقد كان التسامح هو الثقافة السائدة، اختفت مسألة التعصب الديني والعرقي وعاش الناس تحت ظل حكم عادل نظم حياة الناس في مسائلهم العامة وترك لهم تنظيم شؤونهم الخاصة. إن أغلب المآسي التي مرت بها الأمة تحدث حين تتبنى الحكومات أيديولوجيات بعينها وتفرضها على الناس، حتى العلمانية تصبح أيديولوجية حين تتبناها الدولة وتفرضها على الشعب، فهذا ليس دور دولة بأي حال من الأحوال، بل إن دورها في أن تعامل الناس بعدل أمام القانون، وأن تنظم حياتهم ومعيشتهم وتحل مشاكلهم وتدافع عن حدودها ومقدراتها، فإن فعلت أكثر وتدخلت في تفاصيل حياة الناس ومعتقداتهم وحاكمتهم بالظنة فهي قد تجاوزت حدودها وأخلت بدورها. ليست التجربة الأندلسية هي الوحيدة التي مرت على التاريخ، قد تكون التجربة الأفضل لدى العرب المسلمين، ولكنها تجربة ناجحة استنسختها الدول الأوروبية بعد صراعات دموية لتشكيل نظام حكم متفق عليه، إن ما يحدث الآن في الدول الأوروبية من تمدن حضاري ورفاهية معيشية وفخر علمي نعجب به هو ذاته كان في الأندلس قبل ذلك بقرون، فنحن نعجب من أمور قد صنعناها ثم دمرناها وبقينا نبكي على أطلالها. يجب أن تكون معايير التطور والتقدم في عقولنا غير ما نراه من غابات أسمنتية وأجهزة مستوردة وخدمات ندفع قيمتها ولباس نفخر به وغيرها من الأمور التي لا تدل فعليا على تحضر الأمم، فالتسامح الديني وتطور معايير الحياة وتنظيمها وانتشار القراءة والكتابة والنقد وترفع الناس عن توافه الخلافات وحسن خلق البشر، وبمعنى آخر مشابه، إن تطور نوعية الحياة ورقي التعامل هو الذي يجب أن يكون معيارا للتحضر وليست الرفاهية المستوردة.