16 سبتمبر 2025
تسجيللست في مقام الحديث عن القضية النقدية المثارة حول قولهم أعذبُ الشعر أكذبُه، ولكني معنيٌّ بقضية أخرى، هي من يسرق الشعر وينسبه لنفسه، وقس عليها كثيرا من السرقات العلمية التي كثرت واشتهرت بعد انتشار الحاسوب حيث سهولة النقل، والأمر موجود في المقالات والأبحاث وغيرها، حتى ترى أحدهم قد نال أرفع الدرجات العلمية بعد أن سطا على أبحاث غيره، وترى كثيرا من الناس يدَّعون قول الشعر بعد أن سرقوا القصائد وجلسوا على الموائد ينسبون إلى أنفسهم ما يسرقون، حتى يجدوا استحسانا وتصفيقا، ويخلع على أحدهم الشاعر العظيم.هذا النموذج للأسف موجود منذ القدم، وأمثال هؤلاء حذر القرآن منهم، فقال: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب).إننا نطالع في أدبنا العربي أن هناك كثيرا من الشعراء يكذبون، ويشير إليهم طرفة بن العبد بقوله:ولا أغيرُ على الأشعارِ أسْرِقُهاعنها غَنِيتُ وشرُّ الناسِ من سَرَقاإن هناك قصيدة تدعى اليتيمة ادعى أربعون شاعرا أنه صاحبها ؛ بينما صاحبها هو الحسن بن محمد المنبجي وهو شاعر مغمور، ووقعت نسبتها إليه في فهرست ابن خير الأندلسي.وخلاصة القصة كما تروى من كتب الأدب أن هناك امرأة كانت تسمى بدعد وكانت تسكن نجد وقطعت عهداً على نفسها أن لاتتزوج إلا من يكتب بها ولها أجمل قصيدة، وقد شاع صيتها بين الشعراء في بلاد العرب، وتوافد الشعراء من كل حدب وصوب للفوز بـ"دعد" لكن لم يفلح أحدٌ في ذلك، وكتب دوقلة القصيدة وانطلق قاصدا دعد في بطحاء الجزيرة العربية، وفي طريقه لنجد وربى نجد ومن أجل دعد، قطع دوقلة المسافات، طلباً للود وبحثاً عن الجمال، وفي طريقه، قابل أعرابياً وتعارفا على بعضهما البعض.فسأله الأعرابي إلى أين يا أخا العرب؟فقال دوقلة إلى حِمى دعد .قال الأعرابي: هذا يعني أنك كتبت ملحمتك وأعددت نفسك للقاء الأميرة؟قال دوقلة: نعم يا أخا العرب.قال الأعرابي: اسمعني إياها يا أخا العرب.فروى دوقلة القصيدة، وكان من عادة العرب حفظ الشعر من الرواية الأولى عند كثير من رواة العرب، ولما فرغ منها، أعجبت القصيدة الأعرابي، ولكنه لم يحفظها من الرواية الأولى، فطلب من دوقلة أن يعيدها عليه، فكررها ومازال يطلب منه حتى حفظ الأعرابي القصيدة. عندئذ قام الإعرابي وقتل دوقلة وحمل القصيدة في قلبه لدعد، وعندما وصل لبلاط الأميرة أخبروها بقدوم شاعر من بلاد بعيدة، حيث نسي الأعرابي موطنه الأصلي عندما حل في بلاط الأميرة.طلبت دعد من الشاعر أن يسمعها القصيدة، فبدأ يرتل ويصدح، إلى أن وصل لبيت في القصيدة، حفظته "دعد" (وقد كانت على قدر من الثقافة والمعرفة وحب الشعر) وبعد أن فرغ الإعرابي من تلاوة القصيدة،قالت دعد: اقتلوه فإنه قاتل زوجي.فتعجب من في البلاط لفكرة الأميرة وسألوها كيف عرفت أنه قتل زوجها،فقالت الأميرة، يقول هذا الشاعر في قصيدتهإِن تُتهِمي فَتَهامَةٌ وَطني أَو تُنجِدي يكنِ الهَوى نَجدُفالأعرابي ليس من تهامة ولا في لكنته شيء من هوى نجد.فالأميرة هنا استطاعت بذكائها تمييز القائل، وهذا الشاعر الكاذب بانت في نبرات صوته كذباته التي فضح بها، ورواية الشعر قيض لها مثل هؤلاء الأذكياء الذين كانوا يستطيعون نسبة القول إلى قائله، فكما كان في رواية الحديث من يكشف الكذابين كما رأينا في مقال نوح بن أبي مريم فإن الشعر له أيضا من يستطيع إخراج الكذابين، جاء في خزانة الأدب للبغدادي أن أبا بكر بن عمر بن إبراهيم بن دعاس الفارسي كان فقيهاً حنفياً أديباً شاعراً، وكان أهل زبيد ينسبونه إلى سرقة الشعر ويقولون: إذا حوسب الشعراء يوم القيامة يؤتى بابن دعاس فيقول: هذا البيت لفلانٍ، وهذا المصراع لفلان، وهذا المعنى لفلان. فيخرج بريئاً، وقد توفي سنة 667هـ.والحديث لا يزال موصولا في الحلقات القادمة إن شاء الله