11 سبتمبر 2025

تسجيل

من يراقب الإعلام؟

12 مايو 2018

في مقال سابق تكلمنا عن بؤس حرية الصحافة في زمن الأزمات والحروب والحصار وفي زمن انهارت فيه الأخلاق والقيم والمبادئ وتفشت فيه الدعاية والحرب النفسية والتضليل والتشويه. والخطير في الأمر أنه حتى تلك الدول التي تدعي الديمقراطية واحترام الحريات الفردية والرأي العام أصبحت تنتهك حرية الكلمة وثقافة السوق الحرة للأفكار والرأي والرأي الآخر. تكمن جدلية حرية الصحافة والديمقراطية في أن الأخيرة تقوم أساسا على الاتصال السياسي وتوفير المعلومة وإتاحة الفرصة للجميع  للتعبير عن رأيه وبطبيعة الحال هذه الأمور لا تتحقق إلا بوجود إعلام يراقب وينتقد ويكشف ويحقق. فالأطراف الفاعلة في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية بحاجة إلى وسائط إعلامية ومنابر للمعارضة والاختلاف في الرأي، والتعبير عن وجهات النظر المختلفة... الخ. إن أي تراجع في حرية الصحافة يعني تراجعا في الديمقراطية. تاريخ حرية الصحافة في العالم يؤكد فكرة التأثير المتبادل بين الديمقراطية والصحافة. فالأنظمة السياسية الدكتاتورية أو السلطوية لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تحلم بصحافة حرة وقوية ونفس الشيء يمكننا قوله عن تلك الأنظمة التي لا تؤمن بالتعددية الحزبية وبحرية الرأي والتعبير. فصحافة هذه الأنظمة تكون دائما أحادية الاتجاه تخدم من يشرف عليها ويمولها ويسيطر عليها وتهمش وتتجاهل غالبية المجتمع ومن لا حول ولا قوة لهم. ما نعيشه هذه الأيام من تداعيات الحصار على كلمة الحق يشير إلى أمر خطير ومنطقي في آن واحد. فالقرار السياسي يأخذه شخص واحد ولا يسمح لأي كان غيره أن يناقش أو يستفسر أو يعارض أو يقدم رأيا في الموضوع، ما يعني أنه إذا عجزت الكيانات السياسية عن الاختلاف في الرأي والتعبير عن أفكار مخالفة أو معارضة يعني أن المنظومة الإعلامية تلتزم الصمت أو تسبح بحمد صاحب القرار على عبقريته ودهائه.  ما يدور في العالم هذه الأيام من أزمات وحروب ونزاعات وخلافات دولية، وما شهده العالم بأسره من تداعيات وانعكاسات 11 سبتمبر 2001 يشير إلى تطورات خطيرة قد تعصف بالديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الصحافة حتى في أعتق ديمقراطيات العالم. ما كان متعارفا عليه في الأوساط الإعلامية والسياسية بالسلطة الرابعة أي سلطة الإعلام التي تراقب السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية أصبح في خانة التاريخ وأدبيات الماضي. حيث إن ما يحدث هذه الأيام في الأوساط الإعلامية العالمية أصبح بعيدا كل البعد عن أطروحة وسائل الإعلام كقوة مضادة أو سلطة تراقب تجار الحروب والأسلحة وصقور البيت الأبيض. فالإعلام الذي يغطي أحداث ومجازر ومذابح بؤر توتر عديدة في العالم أصبح يطبل للحرب أكثر مما يعبر عن بشاعتها وعدم شرعيتها وقانونيتها وإنسانيتها وعن خسائرها وتداعياتها وانعكاساتها السلبية الكبيرة. الإعلام كسلطة رابعة أصبح أسطورة وأصبح نظرية جوفاء لا أساس لها من الصحة في أرض الواقع. وسائل الإعلام أصبحت جزءا من القوى الفاعلة في المجتمع وأصبحت جزءا من البنية الفوقية التي تتحكم فيها قوى المال والأعمال والسياسة. فالإعلام الذي كان من المفروض أن يكشف العيوب والتجاوزات والمغالطات الكبيرة والتلاعبات الخطيرة بالرأي العام أصبح جزءا من اللعبة يبرر ويفسر ويضلل ويعتم لصالح الوضع الراهن ولصالح القوى الفاعلة في المجتمع على حساب غالبية الشعب وعلى حساب الموضوعية والحرية والحقيقة. فالماكينة الإعلامية أصبحت هي المنظر والمبرر والمفسر لما هو عليه العالم اليوم، عالم تحتكره وتسيطر عليه حفنة من أباطرة المال والسياسة. فالإعلام في عالمنا اليوم يتميز، على حسب قول "إغناسيو رأموني"، بالتلوث والتسمم بكل أنواع الأكاذيب والإشاعات والتضليل والتشويه والتلاعب. والمطلوب بكل بساطة هو تطهير هذا الإعلام من كل هذه الشوائب والملوثات. ومن هنا يتوجب على المنظومة العالمية التفكير في إنشاء مرصد عالمي للإعلام لمراقبة التجاوزات والألاعيب، كما يتوجب على المجتمع المدني في كل دولة أن يشكل مرصدا على المستوى الوطني لمراقبة التضليل والتعتيم والتلاعب بالحقيقة لصالح حفنة من أصحاب النفوذ المالي والسياسي. إن المجمعات الإعلامية العظمى أصبحت تفضل مصالحها بالدرجة الأولى على حساب مصالح الشعوب والدول والأمم والإنسانية جمعاء. التجارب في الميدان أكدت أن الصناعات الإعلامية الضخمة سرقت ونهبت حرية التعبير وحرية الصحافة من أصحابها الحقيقيين وهم الشعوب لصالح أصحاب المال والنفوذ السياسي وهذا الموقف يتناقض جملة وتفصيلا مع مبدأ الديمقراطية ومبدأ السوق الحرة للأفكار ومبدأ المسؤولية الإعلامية. التعديل الأول في الدستور الأمريكي على سبيل المثال يضع قيودا أمام الحكومة الأمريكية لعدم التدخل والتطفل على الصحافة وحتى رئيس الدولة نفسه لا يستطيع أن يقوم بضغوط على المؤسسة الإعلامية والقائم بالاتصال. الرئيس كلينتون رئيس أقوى دولة في العالم بقي مكتوف الأيدي أمام التغطيات الصحفية والتحقيقات والتقارير المختلفة التي تفننت فيها مختلف وسائل الإعلام الأمريكية لكشف تصرفاته اللاأخلاقية والتي خرجت عن الآداب العامة. أين نحن من كل هذا وإلى متى تبقى صحافتنا في الوطن العربي تلمّع وتصنع الديكورات والأطر المزخرفة بالورود والزهور؟ السلطة في الوطن العربي مع الأسف الشديد ما زالت تنظر إلى المنظومة الإعلامية والمؤسسة الإعلامية على أنها أداة لتثبيت شرعيتها وبسط نفوذها وتمرير خطابها السياسي بعيدا عن طموحات الجماهير ومطالبهم. السلطة في الوطن العربي ما زالت لم تستطع بناء المؤسسات اللازمة لضمان المشاركة السياسية الفاعلة ولضمان رأي عام قوي وفعال. ونتيجة لكل هذا فإنها فشلت كذلك في بناء نظام إعلامي إيجابي وفعال وليس سلبيا يستقبل ويؤمر، نظام إعلامي يؤمن بالاتصال الأفقي ويعمل على إشراك مختلف الشرائح الاجتماعية في العملية السياسية وفي اتخاذ القرار، نظام إعلامي همه الوحيد هو كشف الأخطاء والعيوب وليس التلميع والتلوين. قد يسأل سائل ويقول هل فعلا وظفت الدول العربية جهازها الإعلامي أحسن توظيف وهل استفادت حقيقة من هذه الوسائل الاستراتيجية والهامة التي تنفق عليها سنويا مئات الملايين من الدولارات بل مليارات من الدولارات. وبكل بساطة نقول إن نظرة الدول العربية لإعلامها نظرة خاطئة وسلبية تقوم على البعد البراغماتي النفعي بدون مراعاة إمكانية استغلال الجهاز الإعلامي بطريقة أرشد وأحسن يستفيد منها المجتمع ككل، السلطة والشعب بشرائحه المختلفة. والنظرة الضيقة هذه للإعلام من قبل الأنظمة العربية ليست نتيجة الصدفة ولكنها نتيجة حتمية لانعدام مستلزمات وشروط الإعلام التنموي الذي يراقب وينتقد ويشارك في صناعة القرار ويشرك الجماهير الشعبية في العملية التنموية وفي البناء والتشييد.