19 سبتمبر 2025
تسجيلحَنـا هذا هو ابن يعقوب الوقاد الذي تسمى بوصف مهنته وقاداً للنار في حمام القرية. يوقد النار لتسخين ماء الاستحمام الذي يزيل عن رواد الحمام أدران أجسادهم. تعب يعقوب من نار مهنته وحطبها وأوصى ابنه حنا ألا يرث عنه ملازمة اللهب والحطب المحترق، فقد أراد له حياة الهواء الطلق وصوت العصافير في نسائم جبل صنين اللبناني الشهير. مات يعقوب بين حزم حطب الموقد ولم يعرف رواد الحمام بتلك الوفاة إلا بعد أن فترت حرارة الماء ثم برد وهو يتصبب على أجسادهم. أما حنا فقد عاش من عائد بيع بيضه المسلوق الذي يحمله كل صباح بعد أن يلتقطه وزوجته هيلانة من بين دجاجات "القن" في ركن البيت الجبلي الموروث من والده ليبيع البيض للمارة والجنود في الطريق إلى مرفأ بيروت أسفل الجبل. وهكذا عاش حنا وزوجته وابنته الصغيرة بربارة، سوى أن أحد صباحات العام 1860 كان مختلفا على حنا الذي ودع زوجته بعد أن أنصت لحلم منامها حين رأت تكسر البيض وتناثره بعيداً عن سلال زوجها الذي ضحك بعد سماع تفاصيل حلم المنام وقال لزوجته إن البيض المسلوق لا يتكسر. خرج حنا ذلك الصباح حسب تفاصيل الرواية التي خط سردها الجميل الكاتب ربيع جابر تحت عنوان "دروز بلغراد حكاية حنا يعقوب"، مؤكداً أنها رواية من نسج خيال ولا تقصد بها الإشارة إلى أحد، فردا كان أو جماعة، سوى أن محتواها كان يلمح إلى الحظ حين تتكوم كل عثراته في طريق أحد ما. فكان حنا يعقوب هو ذلك الأحد الذي فر من لهب حمام والده المتقد إلى دنيا العصافير ونسائم الجبل ليقبع طويلاً في غياهب سجون بلغراد وأقبية الهرسك دون أن يكون له ذنب سوى أنه قال نعم.. متشوقا إلى نقود الذهب "العصمليات" الثلاث التي عرضت عليه ثمناً مضاعفاً لبيضات سلته لمجرد اصطفافه مع الدروز المحابيس المرحلين بعيداً إلى بلغراد قسراً وإبعاداً، ليكمل العدد عوضاً عن أحد أبناء الشيخ غفار عز الدين الخمسة بعد أن دفع للباشا بعض ما يغري لإطلاق أبنائه سوى أن الباشا ثمن للشيخ غفار شفاعته وهداياه وأوعز لرجاله أن يطلقوا فقط أحد الأبناء الخمسة ويتدبروا العدد الإجمالي للمرحلين إلى المنفى وعددهم 550 رجلاً من الدروز بعد سلسلة معارك في الجبل تناهض الدولة العثمانية والاحتلال الفرنسي. ذهبت السفينة بعيداً عن المرفأ تحمل حنا ورفاقه المبعدين دون أن تتوقف في عكا ويعود لبيته ودجاجاته البياضة حسب وعود عساكر المرفأ. قضى حنا 12 عاماً بين السجون وأقبية القلاع وسخرة السجانين في برد بلغراد وضفاف الدانوب، يبني الجدران مع رفاقه ويقطف كروم العنب وثمر التفاح مكبلاً بالقيود كرفاق السجن الذين أسقطهم البرد والمرض ونتانة المحابس طويلاً تحت الأرض. عموماً تلك رواية رائعة وربما يستخلص منها الكثير من المضامين حتى دون الاعتبار لماهية شخوصها وأهدافهم ومحيط أحداث الرواية وتاريخه، فما قصده الكاتب من تأصيل عدوانية الحكومة العثمانية على فئة دون أخرى ومن سلطوية الفرنسيين وتداخلها مع الحكم العثماني فكل تلك التصورات لم أتوقف عندها، بل اكتفيت هنا بما تمحور حول بطل الرواية. فالعبرة دائماً بالدلالات وإشارات الحدث، فهل هو الطمع في "حنا" الذي دفعته رغبة الحيازة للذهب وبريقه ليرمي بنفسه في غياهب السجون والمنافي البعيدة بينما كانت هناك أسرة تنتظر عودته ورزق كفيل بلقمة عيشها. أم هو الجهل وغياب العقل والتدبير والانقياد نحو الضياع والحيل المدبرة من الغير. أم أنها بشاعة شيوع الفساد وغياب سلوك العدالة وطمس حقوق الناس. غالباً تظل الرواية تكشف عن خفايا الأنفس وسلوك المجتمعات وتوثق لتاريخ يحمل بين دفتي لحظاته بعض العبر.