14 سبتمبر 2025
تسجيل"الوقائع كائنات مقدسة، تُمارس انتقاماً بشعاً من الباحث الذي يتظاهر أنها غير موجودة". لا تنطبق هذه المقولة التي تُنسب لأحد مؤرخي اليونان القديمة على الباحثين فقط، وإنما يصدقُ مضمونها، بدرجةٍ أكبر، على صانع القرار السياسي. بعيداً عن التحليلات التقليدية، قد تكون "واقعية" الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ومعها صراحتهُ، خيراً على حاضر العرب ومستقبلهم، إذا عرف هؤلاء كيف يتعاملون مع تلك الحقيقة.نحن اليوم بإزاء رئيسٍ أمريكي يواجهنا كعرب، ربما لأول مرة، بحقيقة أفكاره تجاه المنطقة وأهلها. ليس هذا فقط، بل إنه ماضٍ في طريقه فعلياً، كالبلدوزر، لتنزيل أفكاره، بحيث تصنع السياسات العملية على الأرض.لا ينفع التعامل مع هذا الواقع "الجديد" بمنطق المناكفة الإعلامية، ولا يجدي فيه بالتأكيد مدخل الشتيمة والهجاء والاستنكار. فالرجل يعمل لتحقيق المصالح القومية الأمريكية كما يراها هو وفريقه من المستشارين والخبراء والساسة. وبغض النظر عن تقويمنا لدرجة النجاح والفشل في ذلك من وجهة نظرنا كعرب، فإن من الواضح أن المقياس الأول والأخير الذي تستخدمه الإدارة الأمريكية الحالية في تعاملها مع المنطقة يتمثل فيما تُظهرهُ كل دولة فيها من قوتها الإقليمية، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وفي كل مجالٍ آخر.في هذا الإطار، تنبغي قراءة "الاتفاق" النووي الأخير مع إيران بطريقةٍ مختلفة. فرغم التهليل الدعائي والإعلامي الذي شجعته الحكومة الإيرانية داخل إيران وفي المنطقة عن "انتصارها" في المفاوضات، يَطرح تحليل الموضوع بدقة استنتاجاً آخر.تُمكن العودة، كمثال، لما كتبه حسين شريعتمداري، مستشار المرشد خامنئي، في صحيفة (كيهان) الإيرانية منذ أيام، فالرجل تحدث عن تخفيض أجهزة الطرد من 20 ألفاً إلى 5 آلاف، وعن إجبار إيران على العودة لأقدم نموذجٍ منها، وعن تخفيض حجم المخزون من اليورانيوم المخصب من قرابة 10 آلاف كيلو جرام إلى 300 كيلو جرام فقط! وعن تعهدات إيران في الاتفاق التي وصفها بأنها "تعهدات واضحة وشفافة لا يمكن التنصّل منها"، بينما بالمقابل "لم يلتزم الجانب الغربي بأي شيء"، مع الإشارة أخيراً إلى أن "اتفاق لوزان لم يتحدث عن إلغاء العقوبات، بل عن تعليقها، ناهيك عن أن التعليق يقتصر على بعض العقوبات فحسب، وهذا الإجراء يُنفذ خلال 10-15 عاماً على وقع تقويم (سلوك) إيران". ليتساءل بعد ذلك: "هل يمكن اعتبار ما حصل في لوزان إنجازاً نفتخر به؟". أكثر من هذا، اعتبر شريعتمداري خلال مقابلة مع وكالة أنباء "فارس" أن "هذا الاتفاق يعني أننا سلمنا الحصان واستلمنا عنانه فقط".واضحٌ إذاً أن أمريكا حصلت على ما تريده تحديداً، وأنها اصطادت ثلاثة عصافير بحجرٍ واحد: تحييد إيران "نووياً" إلى عقدٍ من الزمن على الأقل، و"تقنين" موضوع الرقابة عليها ليُصبح تدريجياً أمراً طبيعياً كما حدث مع عِراق صدام، وفتحُ "حنفية" الاقتصاد لها قليلاً ليستمر دورُها في استنزاف وإنهاك المنطقة، وهي تجري خلف أوهامها الإمبراطورية المجنونة. لا يجب أن ننسى هنا أمرين: إمكانية إلغاء المعاهدة على الدوام من قبل أي إدارةٍ أمريكية ترى ذلك، وفي أي وقت. والإمكانية الدائمة لعمليةٍ عسكرية تقوم بها إسرائيل حين ترى خطراً حقيقياً في أي تطور.رغم كل هذا، ستضطر إيران لقبول الاتفاق مُرغمةً لتحقيق هدف رفع العقوبات، وهو الأمر الوحيد الذي سينقذ السلطة الإيرانية، بِمَلاليها وسَاسَتها، من الفشل الكامل. فهذا الرفع سيُنعش الاقتصاد الإيراني لدرجةٍ معينة، ويغطي شيئاً من تكاليف التدخل في سوريا والعراق ولبنان واليمن وغيرها. وهذا ما لا تُمانع به أمريكا، بمنهجها السياسي البراجماتي.تلك هي المعادلة التي سيضطر العرب للتعامل معها. والمطلوب في التحضيرات للحوار الصعب الذي تحدث أوباما عنه مع الحلفاء الخليجيين رفع السقف إلى أقصاه. كانت "عاصفة الحزم" الخطوة الأولى في الموضوع، لكن الخطوة الثانية يمكن أن تحصل في سوريا، حيث يمكن قطع شرايين التدخل الإيراني في المنطقة بشكلٍ حاسم. وهو، للمفارقة، ما أشار إليه أوباما نفسه حين ذكر، في مقابلته الشهيرة الأسبوع الفائت في صحيفة نيويورك تايمز، أن دول الخليج يتعين عليها أن تكون أكثر فعاليةً في معالجة الأزمات الإقليمية، وبعد حديثه عن إمكانية قيام أمريكا بـ"القيام بشيء" فيما يخص الموضوع السوري، أكمل قائلاً: "ولكن السؤال هو: "لماذا لا نرى عرباً يحاربون الانتهاكات الفظيعة التي ترتكب ضد حقوق الإنسان أو يقاتلون ضد ما يفعله الأسد؟".إلى هذا، واصل الرئيس الأمريكي صراحته مع العرب مؤكداً: "إن أكبر خطر يتهددهم ليس التعرض لهجوم محتمل من إيران، وإنما السخط داخل بلادهم بما في ذلك سخط الشبان الغاضبين والعاطلين والإحساس بعدم وجود مخرج سياسي لمظالمهم". فهل يمكن، كما ذكرنا سابقاً، توظيف الفرصة التاريخية التي ظهرت مع انطلاق "عاصفة الحزم"، والتي مثلت درجة غير مسبوقة من "الالتحام" الرسمي / الشعبي، وحملت معها إمكانية تجاوز مأزق الصراع بين الحاكم والمحكوم؟ وذلك من خلال رؤيةٍ سياسية داخليةٍ عربية جديدة ، وتُطلق عمليات تنمية حقيقية.ثمة تحدٍ آخر يواجهه العرب، ويتمثل في التنسيق الخفي والمُعلن الروسي الإيراني. فخلال الأسبوع الماضي، أطلقت كل من روسيا وإيران والعراق ثلاث "مبادرات" تتعلق بالوضع في اليمن، من الواضح أنها تهدف لشراء الوقت ووقف زخم وإنجازات "عاصفة الحزم" أكثر من أي شيءٍ آخر. لهذا، كان طبيعياً أن يعلن السفير السعودي لدى الأمم المتحدة، عبد الله المعلمي، أن بلاده لا ترى ضرورة لمشروع قرار روسي بشأن اليمن، وأن هذا القرار جاء "للتشويش" على القرار العربي في المجلس.أخيراً، تبقى، بالمقابل، إشكالية افتقاد التماسك الحقيقي القوي في صف التحالف العربي مع كل من تركيا وباكستان. فالصف المذكور نفسهُ يُعاني من خلخلةٍ، يعرف أصحاب القرار وجودها، ولا يكفي في التعامل معها تجاهُلها إعلامياً، بل تحتاج إلى معالجةٍ سياسية تقوم على مصارحات جذرية. وعلى نفس الخلفية يأتي موقف البرلمان الباكستاني من "عاصفة الحزم"، ومحاولات جر تركيا إلى التركيز على ما يُسمى بـ "حلٍ سياسي" في اليمن، يرمي في الحقيقة إلى إعادة الزمن إلى الوراء، وإزالة آثار "الاختراق" العربي الذي بدأ بـ"عاصفة الحزم" في الإقليم بأسره.لقد أكد الصحفي توماس فريدمان، الذي أجرى المقابلة مع أوباما، أنها حصلت بناءً على دعوة الرئيس. وهذا يعني أن الرجل أراد إرسال رسائل صريحة وعلنية وقوية للعرب جميعاً، وللخليجيين تحديداً، مع تصاعد احتمال تصديهم لتوجيه دفة الأحداث في المنطقة، بقيادةٍ سعودية. فكيف يكون الرد على تلك الرسائل؟.هل يحصل "الحوار الصعب" مع أوباما وقد سجل العرب جملةً من النقاط الجديدة والقوية لمصلحتهم تتعلق بالتحديات السابقة؟ هذا هو السؤال الكبير الذي ستُحدد الإجابة عنه مصير العرب إلى أمدٍ قادم.