18 سبتمبر 2025
تسجيليعوّل السودانيون كثيراً هذه الأيام على حوار وطني تداعى له (83) حزباً تحت قبة واحدة سميت بالمائدة المستديرة.. ظل السودان ومنذ استقلاله عن الهيمنة البريطانية في العام 1956، في حالة عدم استقرار سياسي عطل عجلات التنمية والتطور رغم الإمكانات الهائلة والموارد الطبيعية المتجددة التي تزخر بها البلاد، وهي إمكانات تصنع، من دون شك، دولة عظمى وهذا ما ظلت تحذر منه وتخشاه المخابرات الإسرائيلية.. صحيح أن عوامل إقليمية ودولية أسهمت في خلق حالة عدم الاستقرار وهي حالة تسِمُ كل دول المنطقة بدرجات متفاوتة، لكن للنخب السياسية السودانية والأحزاب قدح معلى في تأخر السودان.. إن قلنا إن غياب الديمقراطية كان الأمر الغالب على فترة ما بعد الاستقلال (58) عاماً كان سبباً مهماً لحالة عدم الاستقرار، لكن نجد في الوقت نفسه أن الفترات الديمقراطية حكمت فيها أحزاب غير ديمقراطية في داخلها وانطبقت عليها الحكمة القائلة إن (فاقد الشيء لا يعطيه).. كل زعماء الأحزاب السودانية التي تعتبر أحزاباً رئيسية ظلوا يديرون أحزابهم بنهج ديكتاتوري و(تكلست) تلك الزعامات وظل بعضهم رئيساً أو زعيما لحزبه لأكثر من (45) عاماً.. حتى أن العدد المهول للأحزاب السودانية نتج جانب مقدر منه بسبب انشطارات بمتوالية هندسية في أوساط الأحزاب التي تعتبر أحزاباً كبيرة، فقد جاء على سبيل المثال حزب الأمة القومي برئاسة الصادق المهدي إلى اجتماع الحوار الوطني الذي دعا له الرئيس عمر البشير، وفي معيته (7) أحزاب منشقة عن الحزب الأم وهكذا الحال بالنسبة للحزب الاتحادي الديمقراطي بزعامة محمد عثمان الميرغني، وحتى حزب المؤتمر الوطني الحاكم برئاسة البشير انشطر لعدة أحزاب مثل حزب المؤتمر الشعبي بزعامة حسن الترابي، والإصلاح الآن بزعامة مستشار الرئيس السابق غازي صلاح الدين العتباني.. لم تحدث هذه الانشطارات إلا بسبب الضيق بالرأي الآخر داخل الحزب الواحد وغياب الديمقراطية، فكانت النتيجة الحتمية خروج مجموعة تلو المجموعة لتشكيل حزب خاص بها.لكن ما هي فرص الحوار الوطني حول المائدة المستديرة، بحضور (83) حزباً؟ يبدو أن الفرصة الحالية لمخرجات إيجابية تصب في صالح الاستقرار السياسي في البلاد هي الأكثر حظاً لعدة أسباب.. فالمؤتمر الوطني الحاكم أحس أكثر من أي وقت مضى بحجم الضغوط الداخلية والخارجية عليه ولا سبيل لاختراق هذه الحالة إلا بتحول ديمقراطي حقيقي وبمشاركة فاعلة لهذه الأحزاب.. فالحالة الاقتصادية أصبحت في الدرك الأسفل من التراجع، خاصة بعد حوالي ثلاثة أعوام من انفصال جنوب السودان وذهاب أكثر من (70%) من النفط الذي شكل فيما قبل الانفصال أكثر من (85%) من إيرادات البلاد.. حتى رسوم عائدات استئجار دولة الجنوب لخط الأنابيب الناقل لنفط الجنوب عبر السودان وهي عائدات قليلة بالمقارنة بعائدات البترول قبيل الانفصال أصبحت شبه معدومة بسبب الحرب الأهلية التي نشبت في جنوب السودان قبل عدة أشهر.التحدي الأمني في أطراف عديدة من البلاد بسبب الحركات المسلحة المتمردة ظل هاجساً مزعجاً في مناطق دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، وظلت هذه التمردات عبئا على الجيش السوداني الذي يعتبر أكثر جيش في العالم ظل يخوض حروبا في جهات عديدة لمدة (58) عاما متواصلة دون انقطاع.. وتقود الحركات المتمردة حربها ضد الحكومة الاتحادية بأسلوب حرب العصابات، تساعدها في ذلك الطبيعة التضاريسية القاسية في مناطق التمرد، ومعلوم أن حرب العصابات من أخطر أنواع الحروب، حيث لا يحقق طرف من الأطراف نصرا حاسما يوقف الحرب.. والسودان دولة مترامية الأطراف تصعب السيطرة عليها عبر القبضة العسكرية مهما كان عدد أفراد الجيش كبيرا ومهما كان تسليحه متقدما، وعليه فإن قُطْراً بهذا الحجم لا يمكن حكمه إلا بإحداث توافق سياسي بين جميع مكوناته السياسية والقبلية والجهوية وهذا ما لم يحدث حتى الآن. القوى السياسية من جانبها وكذلك الحركات المتمردة وصلت إلى حالة يأس من سقوط نظام البشير الذي بدا مسيطرا بشكل كبير على جميع مفاصل الدولة وأصبح النظام عميقا في الدولة يصعب إسقاطه بعد حكم دام ربع قرن من الزمان، ولذا أصبحت هناك قناعة متزايدة لدى هذه القوى المعارضة المنهكة بضرورة التعاطي الإيجابي مع النظام وترك أمنية إسقاط النظام جانبا على الأقل في الوقت الحالي، ومثلما تضرب الخلافات بأطنابها في داخل كل حزب، فإن هذه الأحزاب لم تتفق على رؤية موحدة أو حد أدنى من برنامج سياسي في مواجهة النظام وكذلك الحال بالنسبة للحركات المسلحة، فحركات دارفور التي تجاوز عددها أكثر من (40) حركة مسلحة لا تجمعها رؤية موحدة وليست هناك إمكانية البتة لأن تتوحد أو تتفق على شروط تسوية لأزمة دارفور.إن لم يحسن نظام الرئيس البشير استغلال الفرصة المواتية فإنه لن يستطيع من بعد هذا الخروج بالبلاد من عنق الزجاجة.. بيد أن هنالك تساؤلاً مفصليا يفرض نفسه بقوة؛ على ماذا يعوّل الرئيس البشير؟ فهل يعوّل على حزبه الذي يعاني أيضا من الخلافات المستشرية داخله أم يعوّل على الجيش الذي مازال يشكل مكوناً قومياً فريدا؟. لكن الاعتماد على الجيش مطلقاً يعني تهميش دور الأحزاب ووضعها في خانة الديكور والسير في طريق معاكس لإرساء نهج ديمقراطي وتداول سليم للسلطة.. حقا تبدو المعادلة أو المفاضلة عصية التحقيق والتنفيذ على أرض الواقع.