14 سبتمبر 2025
تسجيلكانت المنظمات في الماضي تمارس نشاطاتها بحرية مطلقة دون الاهتمام بآثار أنشطتها المختلفة والانعكاسات التي قد تسببها هذه الأنشطة على الوسط الذي تعمل فيه سواء كانت داخلية أو خارجية، لكن التطور التكنولوجي والعلمي الكبير الذي تشهده بيئة الأعمال اليوم وانتقال المجتمعات إلى عصر اقتصاد المعرفة يشير بوضوح إلى الدور المهم الذي تلعبه الأعمال في حياة الدول على مختلف المستويات، حيث أصبحت المنظمات الكبرى تتنافس فيما بينها باختراعاتها واكتشافاتها سلعا كانت أو خدمات، وزاد تأثير هذه المنظمات على قرارات الدولة، بل امتد هذا الأثر إلى دول أخرى بفعل الاستثمار الخارجي لهذه المنظمات، إن هذا الأمر يوضح مدى الحاجة إلى أن تكون قرارات المنظمات قرارات مبنية على الأخلاق والقيم بهدف الحد من الآثار السلبية على المجتمع. أصبحت المنظمات في عصرنا الحالي تؤمن بالإصلاح الاجتماعي حيث إنها تدرك تماما أنه لا يجب أن تركز فقط على زيادة أرباحها بل يجب أن تساهم في تحقيق الخير العام من خلال التنمية المستدامة والتنشئة الاجتماعية وخدمة التطور والازدهار في مختلف المجالات سواء كانت علمية، اجتماعية، ثقافية، رياضية، صحية، خيرية... إلخ. أصبحت المسؤولية الاجتماعية من أهم اهتمامات المؤسسات بمختلف أنواعها ومشاربها سواء كانت خاصة أم عامة، خدمية أم تجارية، فالشركات أصبحت لا تقيّم فقط على أساس الأرباح التي تحققها بل أصبحت تقيم كذلك على ما تقدمه للمجتمع من خدمات وعلى مساهمتها في التنمية المستدامة واهتمامها بقضايا البيئة والصحة والتربية والثقافة والعلوم والرياضة وحقوق الإنسان... إلخ. فبناء سمعة المؤسسة أصبح يعتمد على عوامل أخرى إلى جانب المكانة المالية، فقد ظهرت مفاهيم حديثة تساعد على خلق بيئة عمل قادرة على التعامل مع التطورات المتسارعة في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية والإدارية والثقافية عبر أنحاء العالم. وكان من أبرز هذه المفاهيم مفهوم "المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات" وقد أصبح دور المؤسسات والشركات المختلفة محوريًا في عملية التنمية والتطور والتنشئة الاجتماعية، فالمؤسسة أيا كانت غير معزولة عن المجتمع وهي مهما كان حجمها تمثل حلقة من حلقاته العديدة والمتداخلة والمتشابكة، فالمؤسسة الناجحة اليوم في عالم المال والأعمال والخدمات هي المؤسسة التي تتخطى الإنتاج والربح والخدمات لتشمل ما هو أكثر من النشاطات الإنتاجية، مثل قضايا المجتمع كالصحة والثقافة والتعليم والرياضة والبيئة، وإلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار المثلث الذهبي للتنمية والذي حدده مجلس الأعمال العالمي للتنمية المستدامة بالنمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي وحماية البيئة. هناك عدة تعريفات للمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات، تختلف باختلاف وجهات النظر في تحديد شكل هذه المسؤولية. فالبعض يراها بمثابة تذكير للشركات بمسؤولياتها وواجباتها إزاء مجتمعها الذي تنتسب إليه، بينما يرى البعض الآخر أن مقتضى هذه المسؤولية لا يتجاوز مجرد مبادرات اختيارية تقوم بها الشركات صاحبة الشأن بإرادتها المنفردة تجاه المجتمع. ويرى آخرون أنها صورة من صور الملاءمة الاجتماعية الواجبة على الشركات، إلا أن كل هذه الآراء تتفق من حيث مضمون هذا المفهوم، وقد عرف مجلس الأعمال العالمي للتنمية المستدامة المسؤولية الاجتماعية على أنها "الالتزام المستمر من قبل المنظمات بالتصرف أخلاقيًا والمساهمة في تحقيق التنمية الاقتصادية والعمل على تحسين نوعية الظروف المعيشية للقوى العاملة وعائلاتهم، والمجتمع المحلي والمجتمع ككل". من المتعارف عليه أن المؤسسات التجارية والاقتصادية والمالية الوطنية والدولية، على حد سواء، ليست منظمات خيرية وأن هاجسها الأول هو تحقيق أكبر قدر ممكن من الربح. ومن هنا تبلورت فكرة وجوب تذكير الشركات بمسؤولياتها الاجتماعية والأخلاقية حتى لا يكون تحقيق الربح هو الهدف الأسمى على حساب عوامل عديدة كالمحافظة على البيئة وحقوق العمال وضمان ظروف العمل المواتية وكذلك العمل على المساهمة في تنمية المجتمع في مختلف المجالات. فالتظاهر بالمسؤولية الاجتماعية وممارسة أعمال غير مقبولة أخلاقيًا أو قانونيًا كتشغيل الأطفال والإخلال بالمساواة في الأجور وظروف وشروط العمل، والحرمان من الحقوق الأساسية للفرد تعتبر تناقضا صارخا ونفاقا كبيرا. علاوة على ذلك، فإن الدور الرئيسي الذي تلعبه المؤسسات، كونها المصدر الرئيسي للثروة والتحديث وتوفير فرص العمل، يحتّم عليها القيام بواجباتها الاجتماعية وفقًا للمفاهيم الحديثة، كما أن التطورات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في عصر يتسم بالتغير السريع تحتّم عليها ذلك أيضًا. إن قيام المؤسسات بدورها تجاه المسؤولية الاجتماعية يضمن إلى حد ما دعم جميع أفراد المجتمع لأهدافها ورسالتها التنموية والاعتراف بوجودها، والمساهمة في إنجاح أهدافها وفق ما خطط له مسبقًا، علاوة على المساهمة في سدّ احتياجات المجتمع ومتطلباته الحياتية والمعيشية الضرورية، إضافةً إلى خلق فرص عمل جديدة من خلال إقامة مشاريع خيرية واجتماعية ذات طابع تنموي. إن نجاح برامج المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات يتوقف أساسا على ثلاثة معايير أساسية تتمثل في الاحترام والمسؤولية، بمعنى احترام الشركة للبيئة الداخلية، ظروف العمل، حقوق العمال، والبيئة الخارجية بمكوناتها المختلفة ودعم المجتمع ومساندته وحماية البيئة، سواءً من حيث الالتزام بتوافق المنتج الذي تقدمه الشركة للمجتمع مع البيئة، أو من حيث المبادرات لحماية البيئة ومعالجة المشاكل البيئية المختلفة. يجب أن تقتنع المنظمة اليوم أن المسؤولية الاجتماعية هي خيار لابد منه، وهو في صالحها، وليست تكاليف مفروضة عليها لكي تستطيع المضي بهذا النهج –كما يجب عليها بناء ثقافة تنظيمية تقوم على أساس ومبادئ المسؤولية الاجتماعية لترسيخ هذا المفهوم. كما من واجب الدولة أن تلعب دورا فعالا وذلك من خلال سن قوانين صارمة تفرض على المنظمات تبني مفهوم المسؤولية الاجتماعية، كما يجب تحفيز المنظمات التي تقوم بدور اجتماعي إيجابي لخلق منافسة بين المنظمات، ومكافأة تلك التي تهتم بالمسؤولية الاجتماعية ورد الجميع للمجتمع التي تعمل فيه وتحقق أرباحها بفضل أفراده، كما يجب على الدولة وضع آليات عملية لمراقبة الشركات والتأكد من التزامها بالمسؤولية الاجتماعية.