14 سبتمبر 2025
تسجيلمنذ أن نشبت ثورات الربيع العربي، ونظرية المؤامرة تتمتع برواج كبير، خصوصا في أوساط الدولانيين statists، المسكونين بهاجس تفكك الدولة كمشروع سياسي، والذين استقر في وجدانهم أن هذه الثورات لم تقم إلا بغرض الإجهاز عليها وتفكيكها تنفيذا لمخططات الفوضى الخلاقة.أنصار هذه النظرية يعتبرون أن الثورات هي عملية مفتعلة، نفذتها أذرع الخارج في المنطقة بغرض الثأر من المشروع القومي الذي انتصر في صراعه مع الإمبريالية في منتصف القرن الفائت، إبان حروب التحرر من الاستعمار، وكأن الأمر هنا يتعلق بتصحيح خطأ تاريخي، فالفكرة القومية التي شجعها المستعمر لتفكيك الإمبراطوريات التي كان يسعى لغزوها، أصبحت بعد ذلك أداة أساسية من أدوات التحرر الوطني وطرد المستعمر، الأمر الذي مثل طعنة للقوى الكبرى تحاول الآن ردها من خلال العمل على تفكيك هذه الدول.وفضلا عن هذا الثأر التاريخي، فإن الإمبريالية المعاصرة — وفقا للنظرية — لم تعد بحاجة إلى التظاهر بالاستمرار في دعم الدول ذات السيادة. صحيح أن هذا الدعم كان ضروريا في أعقاب الحرب العالمية الثانية لإشعار الدول الضعيفة والمهزومة بأنها على قدم المساواة مع الدول الكبرى المنتصرة، ومن ثم تقليل احتمالية مقاومتها للتنظيم الدولي القائم وقتها، إلا أن هذه الأفكار قد استنفدت أغراضها، وأصبح من الممكن إعادة تخطيط العالم وفقا لكيانات أولية صغيرة، ليس لها قوة الدولة ولا استقلاليتها، كيانات مشغولة طوال الوقت بالتنافس الدائم والصراع المستمر فيما بينها، لا تحتكر القوة ولا تشكل من ثَمَّ خطرا محتملا على مصالح القوى الكبرى. صحيح أن العالم المكون من مثل هذه الوحدات الأصغر سيكون أكثر فوضوية، إلا أن حالة التفكك والضعف الإجمالية التي ستكون عليها هذه الوحدات الصغيرة سوف توفر درجة عالية من الاستقرار بالنسبة لمصالح القوى الكبرى، والتي سوف تنتقل من مرحلة حماية الاستقرار (الذي كانت توفره الدول القومية) إلى مرحلة إدارة الفوضى (المقترنة بهذه الثورات) كما يؤكد أنصار النظرية.ووفقا لهذا التفكير فإن قيام القوى الكبرى بتحفيز سيناريوهات التفكيك والفوضى الخلاقة يعد ضروريا للحفاظ على أمنها، وإطالة أمد بقاءها في زعامة العالم. فالتفكيك المتعمد هو شرط للقضاء على الأفكار الوحدودية التي تهدد استمرار الإمبراطورية الغربية، كما أن نشر حالة من الفوضى يحول دون نشوء زعامات متنمرة تتحدى القوى المهيمنة.وتذهب النظرية إلى القول إن تفكيك الحدود وتكوين شعب عالمي صار أمرا محتملا بعد أن تطورت إمكانات التغلغل العابر للحدود، عبر قنوات الإعلام الفضائي وشبكات الاتصال وثورة المعلومات، والتي ترتب عليها نشوء نسخة حديثة من "المواطنة" يتواصل أفرادها عبر وسائل الفضاء الافتراضي، وليس عبر وجودهم على نفس الإقليم. ولهذا يؤمن أنصار نظرية مؤامرة الفوضى الخلاقة أن الاسم الصحيح لثورة المعلومات التي مهدت الطريق أمام ثورات الربيع العربي، هو "فوضى المعلومات"، وأن إتاحة تكنولوجيا الاتصال بعرض العالم لم تكن سوى خطوة مشبوهة قامت بها الدول الكبرى بغرض تمهيد المسرح الداخلي في الدول المستهدفة وإيجاد الظروف المناسبة التي تؤهل لصنع هذه الحالة من الفوضى. والمخطط الأساس لهذا السيناريو — وفقا للنظرية — هو الولايات المتحدة الأمريكية، بوصفها راعية الفوضى الدولية. فيما تقف لها روسيا بالمرصاد، بوصفها راعية التكامل الإقليمي. ولهذا تسارع الأنظمة المعادية لثورات الربيع العربي إلى مد جسور التفاهم مع الروس، فيما تؤكد تصريحا أو تلميحا وعيها بمؤامرات الأمريكان. قد تبدو الافتراضات السابقة كما لو كانت تحوي قدرا من المنطق، ولكن المواجهة التي تدور رحاها الآن بين الدولتين المذكورتين، الولايات المتحدة "راعية الفوضى الخلاقة"، وروسيا "نصيرة الدول القومية"، بمناسبة الأوضاع في أوكرانيا، توفر لأصحاب نظرية المؤامرة فرصة لإعادة النظر في مقولاتهم والتوقف قليلاً لمراجعة ما يؤمنون به.ففي هذه الأزمة تبدو المواقف معكوسة، فروسيا التي لم تعترض على خطوة الإطاحة بالرئيس المنتخب في مصر، وسارعت بالاعتراف بالتطورات الجديدة فيها بوصفها تصب في مصلحة التكامل ومقاومة الفوضى، هي نفسها التي ترفض الاعتراف بالتطورات السياسية المماثلة التي شهدتها أوكرانيا، وتحاول استقطاع شبه جزيرة القرم منها، بعد استفتاء يتوقع أن يكون صوريا، أما أمريكا التي يفترض أن تكون وراء سيناريو الفوضى الخلاقة عبر العالم فتشدد على التكامل الإقليمي لأوكرانيا وترفض منطق التفكيك الذي يلوح به الروس، وتتهددهم بعقوبات إن هم مضوا قدما فيه.صحيح أن فهم الوضع في أوكرانيا يتطلب مساحة أكبر وتحليل أعمق، ولكن المقصود من استدعائه كشاهد هنا هو التأكيد على أن افتراضات الدولانيين قد لا تصلح لفهم الواقع، خاصة افتراضهم أن أمريكا وراء ثورات الربيع العربي بهدف نشر الفوضى، فالدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا، مازالت تراهن على استقرار حلفائها، وكان يناسبها أكثر ألا تنشب الثورات من الأساس، وسوف تسارع متى سنحت الفرصة للاعتراف بأي انقلاب تم أو سيتم على انظمة الربيع العربي. فالفوضى ليست بديلا مأمونا يمكن الرهان عليه، خصوصا بالنسبة لدولة لها مصالحها الثابتة التي لا يمكن ضمان استمرار تدفقها من دون "أنظمة مستقرة" تدور في فلكها.