31 أكتوبر 2025
تسجيلهنا في لبنان الهمّ مختلف.. ففي غالبية دول العالم العربي يعيش الشعب على أنغام الثورات العربية التي أنارت ليل شمال إفريقيا.. هناك الناس ما بين مترقب لما ستؤول إليه الأمور في ليبيا ومصر وتونس ويده على قلبه من أن تسرق الثورة أو تجهض أو تواجه بثورة مضادة، وما بين مستلهم للثورة فيعمل على نسخ تجربتها في بلده ليطيح بحاكم لا يختلف عن أولئك الذين رحلوا أو من هم في طور الرحيل.. أما في لبنان، فكما الهمّ مختلف فإن المشهد مختلف أيضاً... ما سبق قوله، لا يعني أن لبنان لا يعيش عصر التظاهرات والمسيرات السلمية التي تحكي عنها الشوارع والأزقة في القاهرة وتونس وطرابلس وصنعاء والمنامة وبغداد وغيرها، لكن التظاهرات والمسيرات في لبنان من نوع آخر ولهدف آخر! هنا الاستعدادات تجري على قدم وساق، وماكينات الأحزاب تعمل ليل نهار، تُحضر، تنادي، تُؤجج، وتُحرّض أن تطلب الأمر من أجل الخروج إلى ساحة الشهداء يوم الأحد الثالث عشر من مارس إحياء لذكرى 14 مارس تحت عناوين ليس من بينها " الشعب يريد إسقاط النظام". وإذا كان لبنان أول بلد عربي يخرج جميع شعبه إلى الساحات والميادين في عام 2005، فيما يشبه الثورة الأوكرانية آنذاك، فإنه لم يكن خروجه لإسقاط ديكتاتور أو لإنهاء نظام، وإنما خرج ليتظاهر ضدّ بعضه البعض، بعض يريد خروج سوريا من لبنان وإسقاط النظام الأمني السوري اللبناني المشترك وبعض بالضرورة مساو أو أقل خرج ليقول "شكراً سوريا" و" معا إلى الأبد". وإذا كان الحدث مضى عليه ما يقارب ست سنوات، فإن الشعب اللبناني لم يتغير فيه شيء - أو لم يُرد له أن يتغير- ولم يستفد من الأحداث العظام خلال العام الحالي بعد أن شهد العرب أروع ثورتين عرفهما التاريخ البشري وهما الثورتان المصرية والتونسية. وها هي الثورة الليبية التي لجأت إلى الكفاح المسلح لمّا علمت أن ديكتاتورها أبى إلاّ تدمير شعبه ومحق تراثه فكان النزال المسلح الخيار الوحيد لنزع حريتها وكرامتها بالقوة أن تطلب الأمر ذلك. كما أنه لم يستفد من تجربة الشعب اليمني الشقيق الذي نسي جميع خلافاته المذهبية والإيديولوجية كما نسي دعوات بعضه الانفصالية في الجنوب ليهتف بصوت واحد في ساحات صنعاء وعدن وتعز ولحج وأب: "الشعب يريد إسقاط النظام"، و "اليمن لجميع أبنائه". لبنان المشهد فيه مختلف، اليافتات تملأ الساحات والميادين وتطغى على مشاهد الطبيعة على طول الطرق التي تصل المدن اللبنانية ببعضها، تدعو لحشد 13 مارس، شعارها واحد "لا.. لوصاية السلاح"، "الشعب يريد إسقاط السلاح".. وبما أن عدد اللبنانيين لا يزيد على أربعة ملايين إنسان، فإن الدعوة تعمل على حشد مئة ألف مواطن، ليس من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية في بلد يعيش عملياً فراغا سياسياً منذ ستّ سنوات، وليس لنزع الشرعية عن "الطائفية" التي تنخر كالسوس في بنية ونسيج المجتمع اللبناني، وليس لإعداد مشروع ينهض بلبنان اقتصادياً واجتماعياً وإنما لمواجهة خصم سياسي يحظى بقبول جميع فئات وشرائح طائفته، وهو حزب الله، من خلال الدعوة إلى تخليه عن سلاحه الذي يعتقد الحزب أنه حمى بسلاحه لبنان وشعبه من العصا الإسرائيلية الغليظة التي يهزها دائماً بوجه لبنان.. وإذا كنت أؤيد وأحترم حق كلّ لبناني في أن يحدد موقفه من سلاح المقاومة، فإني لا أرى الوصول إلى حلّ بشأنه يكون في الشارع بل على طاولة حوار كان اللبنانيون ارتضوها جميعا في عام 2008 عقب اتفاق الدوحة. إذ إن طرح السلاح في الشارع يعقد المسألة ولا يحلّها ويزيد من مأزق الوضع السياسي في لبنان ولا يستأصله ويعمق من الطرح الطائفي ولا يخفف منه، فالمستهدف وإن كان سلاح حزب الله - إذا ما افترضنا النية الطيبة للداعين له - إلا أن الآخر يراه استهدافاً لطائفته وهذا الآخر ليس حزب الله فحسب بل الطائفة الشيعية برمتها. من هنا فإن الاستقطاب سيقابله استقطاب آخر يدعو عموم الشيعة للالتفاف حول حزب الله وحركة أمل مما يفرض العزلة الطائفية على شريحة كبيرة من المجتمع اللبناني يزيده تعقيداً استقطاب آخر لدى الطائفة السنية في حين تبقى الطائفة المسيحية منقسمة حول قياداتها كما هي الحال اليوم. وما بين " الشعب يريد إسقاط السلاح" و "الشعب يريد حماية المقاومة" يضيع الشارع اللبناني بين زورايب القوى السياسية وينسى حقه في الكرامة والمساواة كمواطن ينتمي إلى وطن لا إلى طائفة. وبعبارة أخرى، هناك في الأوطان العربية، يخرجون للتخلص من مآسيهم المزمنة وهنا نخرج لتعزيز مأساتنا وهي الطائفية.. هناك يخرج الناس تحت عناوين "الشعب يريد" ونحن نخرج تحت عناوين " زعيم الطائفة يريد".