16 سبتمبر 2025

تسجيل

تحديات في مواجهة السلمية

12 فبراير 2014

يقترن أسلوب اللاعنف باسم المناضل الهندي "المهاتما غاندي"، والذي بفضله تحول هذا الأسلوب إلى إستراتيجية مقاومة وأصبح يحتل موقعا هاما بين أساليب الاحتجاج. ويمثل اللاعنف النهج الأمثل للجماهير العزل في مواجهة السلطات المستبدة، حيث يعتمد على كثرة عددها وصمودها في مواجهة قوة السلطة وبطشها. ومن أشهر الصراعات التي وظفت اللاعنف الحملة التي قادها غاندي للاستقلال عن الاستعمار البريطاني، والحملة التي قادها مارتن لوثر كينج من أجل الحصول على الحقوق المدنية للأمريكيين من أصول إفريقية.وتنهض فلسفة هذه الإستراتيجية على أن العنف لا يولد إلا العنف، وأن أسلوب التغيير الاجتماعي من المحتم أن يؤثر على شكل المجتمع النهائي، فالأسلوب العنيف في التغيير ينتج مجتمعا السمة الأبرز فيه هي العنف، أما السلمية في التغيير فإنها تفرز مجتمعا مسالما ومستقراً. من ناحية أخرى فإن المدافعين عن هذه الفلسفة يؤمنون بأهمية الفصل بين الاستبداد وبين المستبد، ويتوجهون بمعارضتهم للأول، فيما يدعون إلى التغاضي عن الثاني، على اعتبار أن الفصل بين الفعل والفاعل يترك الباب مفتوحا أمام الفاعل ليغير سلوكه ويعاود الاندراج في المجتمع بشكل إيجابي. وقد سارت الثورة المصرية في موجتها الأولى في هذا المسار، وكان هذا مما جذب أنظار العالم كله إليها، حيث اعتبرت سلميتها دليلا على رقي وتحضر من قاموا بها. وكان اعتمادها لهذا الأسلوب هو السبب في رفض القائمين بها التنكيل برموز النظام السابق أو تطهير مؤسسات العهد القديم على نحو حاسم. ولما حدث الانقلاب ونجح في الإطاحة بالرئيس الشرعي المنتخب، استأنفت الثورة المصرية مسارها السلمي لتقاوم عودة الدولة العميقة وعودة رموز النظام السابق إلى صدارة المشهد السياسي من جديد. ولكن السلمية التي نجحت بشكل جزئي في الموجة الثورية الأولى، تواجه تحديات بالغة في الموجة الثانية، إلى الحد الذي يهدد بانحراف الثورة عن مسارها. وتنبع هذه التحديات من التناقضات التي يفرضها السياق المصري والذي هو بالضرورة مختلف عن السياق الذي استخدمت فيه هذه الإستراتيجية في النموذجين الهندي والأمريكي.فعندما كان كل من غاندي وكينج يقاومان من خلال أسلوب اللاعنف، كانا يراهنان على الضمير الإنساني الحي لدى المتعاطفين، ممن يقدرون قيمة الكفاح السلمي لنيل الحقوق المشروعة. وبالفعل كان الكثير من الناس عبر العالم يتابعون سعي غاندي وكينج بتعاطف وتشجيع، وقد التهبت مشاعر الكثيرين وهم يقرأون تفاصيل الاعتداء على زائري غاندي في محبسه وتعرضهم لبطش قوات الأمن وضرباتهم الموجعة على رؤوسهم بالهراوات، فيما هم يتقدمون بثبات، دون إبداء أي نية في مبادلة العنف بالعنف. كما كان ثبات الشباب الأسود في مواجهة بطش قوات الأمن الأمريكية وهي تفض احتجاجاتهم بالقوة في مدينة لوس أنجلوس ملهما للجماهير عبر العالم. وقد مثلت هذه المشاهد نواة استقلال الهند وبداية عهد جديد من الحقوق المدنية في أمريكا.في رابعة والنهضة كانت السلمية أوقع، وكان المعتصمون ينتصرون لقضية لا تقل عدالة، فلم يظهروا أي رغبة في ممارسة العنف، فقط ظلوا تحت الشمس لأكثر من شهر ونصف تعرضوا فيها لحملة اغتيال معنوي وصفتهم بكل قبيح وشائن، فاتهموا بأنهم يحتجزون المعتصمين بالقوة، واتهموا بممارسة الرزيلة وتسهيلها للراغبين فيها، واتهموا بحيازة الأسلحة الثقيلة والكيماوية، واتهموا بنشر الأوبئة بين سكان منطقة الاعتصام لقلة نظافتهم ورائحتهم الكريهة، واتهموا بأنهم يقيمون مقابر جماعية يرسلون إليها كل من تراوده نفسه على الرحيل أو إنهاء الاعتصام. وأخيرا انتهى المشهد بالنهاية الدرامية المعروفة. فبعد أن أدت حملة الأكاذيب دورها، وخلقت رأيا عاما لا يحمل أي تعاطف مع المعتصمين بدأت عملية الفض، ليس باستخدام الإرغام الجسدي أو هراوات رجال الأمن، وإنما باستخدام الذخيرة الحية التي انطلقت صوب المعتصمين العزل لتنهي اعتصامهم وحياتهم في الوقت نفسه.وهكذا فقد اللاعنف في النموذج المصري تأثيره وهو يعمل في بيئة لا تقدر كرامة الإنسان وتمارس تجاهه الاغتيال المعنوي قبل الاغتيال المادي. وحاليا تكتمل فصول المأساة من خلال قيام ماكينات الكذب الإعلامية بالربط على نحو متعسف بين المتبقين على قيد الحياة من معارضي الانقلاب، وبين أعمال التفجيرات التي اشتعلت على نحو مريب بعد نبؤة "الإرهاب المحتمل" التي حصل الانقلابيون بموجبها على تفويض بالقتل، وذلك من دون إقامة أدلة أو تقديم براهين. غير أن هذه الخطوة هي من الخطورة بمكان. فسياسة التهم الجاهزة والتصنيفات المتساهلة التي تجعل المعارض إرهابياً وعميلا ومتطرفاً، وتبدأ في محاسبته فعليا على كل هذه التهم المختلقة، قد تنتهي إلى أن تخلق واقعا لم يكن موجودا بالفعل.إن أسوأ خطايا الانقلاب أنه يغلق منافذ الاحتجاج الشرعية، وهذا عيب ليس له علاج، فالانقلاب بحكم أنه اعتداء على إرادة الناس الحرة، وبحكم أنه فعل خارق للشرعية، يظل مسكونا بهاجس أن يقوم الآخرون بنفس ما قام به، ومن هنا لا يملك أن يقيم حياة سياسية طبيعية بها نوافذ صحية للاختلاف والمعارضة. ولكن إغلاق منافذ التعبير السلمي، والإفراط في استخدام القوة إزاء المعارضين، وإلصاق تهم الإرهاب بهم، هذه الأجواء الخانقة لا تفعل أكثر من أنها قد تدفع المجتمع لانفجار غير محسوب العواقب. فالكثير من الشباب صاروا الآن على شفا الوقوع في اليأس من الاستمرار في أساليب احتجاج سلمية لا تؤتي ثمارها، بل وتواجه بقسوة مفرطة، وكذب مفرط، وافتراءات مفرطة. كما أن كثرة الحديث عن الإرهاب وإلصاقه بطائفة لا تعتنقه، ثم إدانتهم بسبب تهم لم يقترفوها، قد يدفع البعض منهم إلى اعتناق ما يتم وصمهم به، والتخلي عن قناعاتهم حول أهمية السلمية ودورها في تحقيق المجتمع المستقر، وهذا التحول في القناعات لدى جيل الشباب يعد أخطر ما يمكن أن يواجهه المصريون جميعا، يستوي في ذلك المؤيدون للانقلاب والرافضون له.