19 سبتمبر 2025
تسجيلعلى غرار شعار "الإسلام هو الحل" للجماعات الإسلامية وفي مقدمها "الإخوان المسلمون" في مصر، أظهرت الانتفاضات الاحتجاجية في تونس وفي مصر شعارا جديدا هو "النموذج التركي هو الحل". شرعت أقلام عربية متعددة تروّج لهذه الفكرة كوسيلة وحيدة لإخراج المجتمعات العربية والإسلامية من المشكلات التي تعاني منها ولاسيَّما في العلاقة بين الشعب ونظام الحكم. انضم بعض الكتّاب الأتراك وبفخر إلى هذه الموجة على أساس أن تركيا أصبحت منذ عقود مثالا يمكن أن يقتدي، بعدما كانت في موقع العدو لكل جيرانها بسبب تحالفاتها مع إسرائيل وبسبب نظامها العلماني المتطرف ضد أبنائه قبل أي جهة أخرى. أولا مثل هذا النقاش دليل عافية كما في تركيا كذلك في العالم العربي وربما الإسلامي. وهو يذكّر بنقاشات مفكري عصر النهضة العربية والعثمانية حيث كان الصراع بين الهوية الإسلامية للمجتمعات العثمانية وبين الأخذ بأسباب التقدم في الغرب منذ نهاية القرن الثامن عشر مع سليم الثالث ثم مع محمود الثاني وما تلاها من عصر التنظيمات ودستور 1876 وصولا إلى الثورة ضد السلطان عبد الحميد الثاني. ولم تضع إصلاحات أتاتورك حدا لهذا السجال المستمر حتى الآن والذي سيستمر ما دامت الحياة في حركة دائمة وتجدد، وما دامت التحديات قائمة في ظل الخلل الكبير في موازين القوى بين الغرب والشرق.النقطة الثانية هي أنني سألت مرة الباحث في التركيات الفرنسي الراحل لويس بازان: لماذا لم تكتمل الديمقراطية في تركيا رغم مرور خمسين عاما على بدئها(1946)؟ فأجابني"لأنه مضى عليها فقط خمسون عاما". وقياسا على مثل هذا الجواب المعبّر يمكن القول إن مستقبل البلدان والمجتمعات العربية مظلم جدا حيث لا يمكن الإشارة اليوم إلى أي نموذج عربي فيه رائحة من الديمقراطية. وإذا علا الصوت بأن لبنان هو الأكثر ديمقراطية، أجبنا بأن لبنان هو الأكثر حرية لكنه الأقل ديمقراطية حيث ليست اللعبة البرلمانية فيه سوى ديكور لنظام الطوائف المتجذر منذ قرن ونصف القرن والقوى الخارجية. نعم يمكن الإشارة، رغم كل الثغرات، إلى تركيا كنموذج ديمقراطي معقول حتى الآن دون أن يكون نموذجا مثاليا، علما أن مرجعية الديمقراطية في تركيا ليست أتاتورك الذي طبّق نظام الحزب الواحد، بل ما ارتضته تركيا بعد الحرب العالمية الثانية من ثمن لانضمامها إلى معسكر الدول الغربية. ولو أن الجيش التركي لم يمارس هوايته المدمرة في الانقلابات المباشرة والمقنّعة لكانت تركيا في مرحلة ديمقراطية أكثر تقدما. وإذا كان على العرب أن يستوحوا من النموذج التركي فهو أن الديمقراطية تصلح لكل المجتمعات وليس بالضرورة أن تكون هذه الشعوب لا تاريخا ديمقراطيا لها، فلا شيء يبدأ إلا من الصفر وبالتالي ليس من مكان لما يقول به اليوم نائب الرئيس المصري الجديد عمر سليمان من أن مصر ليست مهيأة للديمقراطية. الشعوب تتعلم ولا بأس أن تتعثر أو تسقط من وقت لآخر لكن في النهاية ستصل إلى مبتغاها في ديمقراطية كاملة. النقطة الثانية في النموذج التركي هي العلمنة التي جاء بها أتاتورك، وبمعزل عن تطبيقاتها السيئة والعنصرية ضد معارضيها ولاسيَّما فيما خص قضية الحجاب، فإن "فكرة" العلمنة كانت حتى من سمات النظام العثماني منذ "خط غولخانه" الإصلاحي عام 1839 بالمساواة بين المسلمين والمسيحيين واليهود في إدارات الدولة. وإسلاميو تركيا يدركون جيدا أن العلمنة في بلد متعدد الأديان والمذاهب مثل تركيا هي صمام أمان أمام الاضطرابات الاجتماعية ولبنان والعراق ومصر نماذج لهذا الاضطراب. والعلمنة أو في حدها الأدنى الدولة المدنية أكثر من ضرورة للاستقرار الاجتماعي وهو غير متوافر في أي بلد عربي. انطلاقا من مبدأي الديمقراطية والعلمنة يمكن أن يشكل النموذج التركي مثالا لكن كمجرد بداية. وهنا بيت القصيد. ولأن المجال لا يتسع في هذه العجالة، نشرح القصد بالقول إن النموذج التركي لم يكتمل ليكون نموذجا بالمعنى الكامل للكلمة. لقد قطعت تركيا شوطا مهما إلى إقامة نظام أكثر استقرارا من غيرها من الدول العربية والإسلامية لكنه نظام لا يزال، رغم سنواته الطويلة، يتلمس النور في نهاية الطريق. فالنموذج التركي لا يزال عاجزا حتى الآن عن إيجاد حلول جذرية للمشكلة القومية والمعضلة المذهبية ونسبيا المسألة الدينية فضلا عن تحديد حاسم لموقع الجيش في الدستور والقوانين. وهي مؤشرات أساسية على مدى اكتمال النموذج ونجاحه أم لا. يمكن للعرب أو المسلمين الاستلهام مما تحقق في تركيا، لكن تركيا لم تصل بعد إلى درجة النموذج والتي قد يكون دونها خمسين سنة أخرى على الأقل. ومهما يكن فالمهم أن يستكمل الأتراك وبكل شجاعة نموذجهم وأن يبدأ العرب وبكل شجاعة رحلة المئة سنة...على الأقل.