30 أكتوبر 2025
تسجيلفي "التضحية" بقيم العبادات الإسلامية: أحكام "الأضحية" مثالًا "ثمانون مسألةً في أحكام الأضحية"، هذا عنوان أحد الأبحاث المتعلقة بأضحية العيد. وبشيءٍ من التأمل، لا يجدُ المرء، عقلًا ومنطقًا، طريقةً أخرى لتفريغ العبادات الإسلامية من القيم الكبرى، الواضحة والفِطرية، الكامنة فيها، أكثرَ فعاليةً من هذه الطريقة.لم يكد يوجد مسجدٌ على هذه الأرض لم يتناول موضوع الأضحية في الجمعتين السابقتين، وإذا تابعتَ الموضوع بقصد الاستقصاء والدراسة، تسمع بشكلٍ عام شكوى مريرة ممن حضرَ الخطب المتعلقة بهذه القضية. ويبدو أن عملية (التسابق) على التفصيل والتوسيع في الحديث عن أحكام الأضحية انتقل من بطون الكتب إلى منابر المساجد.بدءًا من التعريف، قال خطيبٌ مشهور: "سُميت أضحية من وقت ذبحها اشتقاقًا من وقت الضحى الذي تذبح فيه، إنها من بهيمة الأنعام فلا تجزئ من غيرها، والذين يريدون تطيير الشريعة تحت عنوان تطوير الشريعة، يريدون أن يبدلوا كلام الله، يخرجون اليوم بالفتاوى المعوجة لتغيير الدين وتبديله".. ويكتب آخر قائلًا: "من ذبح أضحيته ليلة العيد نظرًا للزحام على الجزارين فإنها لا تقع أضحية وإنما شاته شاة لحم، وعليه أن يذبح مكانها أخرى".هكذا، من اللحظة الأولى، يجري التأكيد على مسائل وقضايا استنبطها الفقهاء تاريخيًا من بعض النصوص، ويتم تحويلها، ولو من دون قصد، إلى قواعد تَحكمُ الشريعة، ثم تُحاصرُ بها قيم الإسلام الكبرى والأصيلة الكامنة في عباداته، ويُتهمُ كل من يدعو لمراجعتها بأن هدفهم الحقيقي هو "تطييرُ الشريعة".يتحدثُ النص القرآني عن نوع الأضحية بكونها من "بهيمة الأنعام". وفي المعاجم، تدل كلمة "بهيمة" على "كل ذات قوائم من دواب البر والبحر، ماعدا السِّباع" وقال بعضها: "البهيمة، الحيوان مُطلقًا". وكذلك، وردت كلمة "الأنعام" في مقامٍ آخر في القرآن: {أحلت لكم بهيمة الأنعام}، وثمة غالبيةٌ من الفقهاء تقول بأن المقصود هو "الأنعامُ كلُّها". قال أبو جعفر: "الأنعام كلها: أجنتها وسخالها وكبارها. لأن العرب لا تمتنع من تسمية جميع ذلك "بهيمة وبهائم"، ولم يخصص الله منها شيئا دون شيء. فذلك على عمومه وظاهره، حتى تأتي حجة بخصوصه يجب التسليم لها".رغم ذلك، تُصرُّ الغالبية العظمى من الفقهاء، تاريخيًا وفي الحاضر، على حصر تعريف "بهيمة الأنعام" في الإبل والبقر والغنم عندما يتعلق الأمر بأضحية العيد. كيف يُقبل هذا التناقض مع التعريفات المُعجمية أولًا، ثم مع تفسير نفس الكلمتين في آيتين من القرآن الواحد؟ على تناقضها مع التيسير للناس في كل مكانٍ في هذا العصر توجد فيه أنعامٌ من كل نوعٍ ولون.أكثرُ من هذا، نجد فقهاء عاشوا بعيدًا عن بلاد العرب على امتداد مئات السنين، ومن المعاصرين، يذكرون عبارة "وهذا هو المعروف عند العرب" بعد حديثهم عن تعريف بهيمة الأنعام. ولا يخطر في بال هؤلاء أن تفسير آية قرآنٍ جاء يخاطب الإنسانية في كل زمان ومكان بهذا الشكل (القومي) هو تعسفٌ خطيرٌ من جانب، وعودةٌ لشرائع الإصر والأغلال والتعسير على الناس من جانبٍ آخر. والغريب أكثرَ وأكثر أن يتجاهل غالبية الخطباء والفقهاء رواية النووي لما "حكاه ابن المنذر عن الحسن بن صالح أنه قال: تجوز التضحية ببقرة الوحش عن سبعة، وبالظبي عن واحد، وبه قال داود في بقرة الوحش"، ولو على سبيل الإشارة إلى وجود من فَكَّرَ بشكلٍ منطقي يُحقق المقاصد في تاريخنا الفقهي.ومن الأحكام المذكورة بإلحاح، التشديدُ على ضرورة الالتزام بعمر الأضحية، إلى درجة أنه لا يجوز التضحية، مثلًا، ببقرةٍ عمرها سنتان إلا بضعة أيام، ولو كان وزنُها، ولحمها الذي سيُعطى للناس، ضعفَ بقرةٍ أخرى أتمت سنتين، في حين (تجوز) التضحية بالثانية! ما من شكٍ أن ثمة أحكام للأضحية تَظهر الحكمة في الالتزام بها، لأنها تحقق مقصد العبادة، ومنها مثلًا أن تكون الأضحية خاليةً من العيوب. لكن كثيرًا من العاملين في الفقه، تاريخيًا وفي زمننا الراهن، يعودون لمسألة التعسير على الناس حتى في مثل هذه المواضع. وحين تجد مثلًا أكثر من ثلاثين عيبًا يتحدث الفقهاء عن (الكراهة) في التضحية بوجود أيٍ منها، ومنها ضعفُ البصر وصِغرُ الأذنين ورائحة الفم! فإن هذا يناقض كل معاني التيسير الذي يهدف إلى مساعدة الإنسان على تحقيق مقصد العبادة في مُجمل ظروفه وأحواله.تطول قائمة أحكام الأضحية، وفيها مثلًا تفضيلٌ لِلَونها، بحيث تكون أقرب للون الأملح، على أساس الاقتداء بلون أضحية الرسول الكريم؛ وحصرُ توقيت الذبح لكل المسلمين في العالم، وليس للحجاج فقط، بشكلٍ تتوافر معه ملايين أرطال اللحم فقط في هذه الفترة المحددة، ولا يعلم إلا الله كم يفسدُ منها، في حين يبقى ملايين الناس محرومين حتى من رائحة اللحم بقية العام. ثم إن الأضحية تكفي عن أهل البيت الواحد، لأخَوين وعائلتيهما، مهما كان عددهم (لنفرض 10 أشخاص)، أما إن كانا يعيشان في بيتين منفصلين فيجب التضحية لكل واحدٍ منهما (ولو كان عدد الأفراد فيهما 6 أشخاص مثلًا). إلى غير ذلك من أحكام.ثمة خيرٌ كبير يمكن أن ينتج عن أداء المسلمين لشعيرة الأضحية بفهمٍ مقاصدي أصيل. رغم هذا، من الواجب التخفيف على الناس فيما يتعلق بمشاعر من لا يستطيع منهم أداءها. لهذا، يكون غريبًا تهميش قضايا من مثل ماقاله ابن العربي المالكي في كتابه "عارضة الأحوذي": "ليس في فضل الأضحية حديث صحيح وقد روى الناس فيها عجائب لم تصح". وكذلك ما رواه البيهقي قائلًا: "رأيت أبا بكر وعمر كانا لا يُضحّيان كراهية أن يُقتدى بهما". وروايته الأخرى، بإسناد صحيح، عن أبي مسعود البدري الذي قال: "إنّي لأدع الأضحى وإنّي لموسر، مخافة أن يرى جيراني أنّه حتم عليّ".وأخيرًا، فإن من عجائب الأحكام المذكورة "إجماع" الفقهاء على أن ذبح الأضحية أفضلُ من التصدق بثمنها، بل إن اسمًا كبيرًا يكتب في الموضوع قائلًا: "ولذلك كان الذبح أفضل من التصدق بأضعاف ثمن الأضحية، قال سعيد بن المسيب رحمه الله: "لئن أضحي بشاة أحب إلى من أن أتصدق بمائة درهم"، فلعلها تشهد يوم القيامة لصاحبها بقرونها، وأشعارها، وأظلافها، وحتى المكان الذي يقع عليه دمها".يرحم الله ابن المسيب على قدر نيته، لكن السؤال يبقى كبيرًا: أين مَن يجلد الناس للالتزام بهذه الطريقة في التفكير من حال مئات الملايين من فقراء المسلمين وغيرهم في هذا العصر؟ بل أين هو، قبل ذلك وبعده، من قرآنٍ خاطب الرسول، الذي حمله للناس، واصفًا إياه بأنه "رحمةٌ للعالمين"؟