13 سبتمبر 2025
تسجيليظهر لأي متابع أن مشكلة النخبة العلمانية في مصر لم تكن مع طريقة أداء الرئيس مرسي ولا مع ضعف إنجازاته السياسية والاقتصادية، فبعد أكثر من شهرين من انقلاب 3 يوليو مازالت البلاد على حالها أو بالأحرى تحركت للأسوأ (ويمكن رصد شواهد ذلك في مقال آخر)، مشكلة هذه النخبة كانت في حقيقة الأمر مع الدين وتغلغله في الحياة العامة. هذا الاستنتاج نابع من ردة الفعل العكسية والمبالغ فيها التي تلت الانقلاب العسكري. فالمساجد يتم إغلاقها، والجماعات الدينية تتعرض لمضايقات، والمتدينون يوقفون أو يتم اعتقالهم، حتى أصبح السمت الإسلامي التقليدي من عوامل إلحاق الأذى بصاحبه أو صاحبته. وعلى التوازي من هذه الخروقات يتم استهداف مواد الهوية في النسخة المنقحة من الدستور، ويبدو أنه يتم الإعداد لمفاجأة المصريين بعدد من المواد التي تحجّم السلوكيات الدينية وتعتبر كل من يتناول شؤون الدولة من منظور ديني مهددا للسلام الاجتماعي. هناك إذن مشروع علماني يحاول تهميش الدين والاقتصار به على البعد الكرنفالي على غرار النسق الأتاتوركي، صحيح أنه على خلاف النسق التركي ترفض النخبة أن تفصح عن علمانيتها على نحو علني، وتتهم كل من يواجهها بحقيقة مشروعها باتهامات التكفير واحتكار الدين وإقصاء المخالفين.. إلخ، إلا أن الممارسات السابقة تؤكد أن العلمنة في مصر قد تحولت إلى واقع تحميه مؤسسات الدولة. وبعد أن كانت النخبة العلمانية في موقف الدفاع وهي تعلن خوفها على الحقوق والحريات في ظل حكم الإسلاميين، وتثير قضايا من نوعية فرض الحجاب على النساء، واللحى على الرجال، وهدم الأضرحة، واضطهاد الأقباط، ومنع النساء من العمل، وتجارة الرقيق، ومضاجعة الموتى، وغير ذلك من الأساطير، إذ بها الآن تنتقل إلى الهجوم مدعومة بقوة مؤسسات الدولة العميقة وفلول النظام السابق. وتؤمن النخبة العلمانية أن الغرب يمثل وطنها الحضاري، وأن الدين يمثل تفصيلة زائدة عن الحاجة، ولا ضرر من استبعادها، فهو وسيلة للسيطرة على عقول البسطاء أكثر من كونه وسيلة لتحقيق التقدم. كما أن التمسك بالدين يبقي الشرق مختلفا عن الغرب، وهذا ما كانت هذه النخبة تحاول تجاوزه دائماً على مستوى التفكير والسلوك والمظهر وخطط التنمية وطرائق الحكم. أما المعتدلون في إطار هذه النخبة فهم من آمنوا بضرورة عصرنة الدين، أي جعله ملائما للعالم الحالي، ومن ثم رفض أي مقولة حول وجود ثوابت أو تفسيرات قطعية لأي شيء، فكل شيء في حالة سيولة مطلقة. ومن هنا كان تشديد هذه النخبة العلمانية على كلمة "مبادئ الشريعة" في الدستور المعطل، فهم يؤمنون أن العنصر الوحيد الذي يمكنهم القبول به في الشريعة الإسلامية هو أفكارها العامة وقيمها المطلقة، مثل العدالة والحرية والمساواة، فمن خلال هذه الأفكار أو المبادئ العامة تمكن صناعة واقع منسجم مع النسخة الغربية. أما أحكام الشريعة التفصيلية فلا مكان لها عندهم، على اعتبار أنها تعبر عن أفكار "الدين التقليدي" التي تتعارض مع التصور الغربي للإنسان والكون والمجتمع. وتدرك النخبة العلمانية أنها تمثل أقلية داخل المجتمع المصري، ولهذا فإنها ترفض أي احتكام إلى الجماهير، كما تسعى دوما إلى الاحتماء بمصدر من مصادر القوة التي تعوض من خلالها انخفاض شعبيتها. على المستوى الخارجي يحتمي أفراد هذه النخبة بالمنظمات الحقوقية والأنظمة السياسية الغربية، وداخليا يحتمون بالمؤسسة العسكرية، (ونذكر كيف أن أحد رموز العلمانية المصرية اعتبر أن صياغة دستور مصر هي أمر يخص العالم المتحضر بأكمله ومن ثم دعا كافة مؤسسات الغرب بما فيها الكونجرس الأمريكي إلى التدخل لضمان ألا يخرج الدستور المصري إسلامي النزعة، نفس هذه النخبة تصمت الآن صمت القبور وهي ترى الدستور تعاد صياغته من خلال لجنة معينة بالأمر المباشر). وقبيل فوز الرئيس مرسي في الانتخابات الرئاسية حاولت النخبة العلمانية أن تحتفظ لنفسها بمكان داخل دائرة التأثير من خلال مشاركتها في اتفاق فيرمونت الشهير، وكان الغرض أن تجد لنفسها موقعا في ظل حكم الإخوان الذي كان يبدو وشيكا. وخصوصا بعد أن انحصر التنافس الانتخابي بين مرشح الجماعة ومرشح النظام السابق. ولكنها سرعان ما قررت الانتقال إلى المعسكر المناوئ بعد أن استنتجت أن ميزان القوى ليس في صالح النظام الجديد وإنما في صالح تحالف مؤسسات الدولة العميقة وفلول النظام السابق. المتوقع من النخبة العلمانية في الفترة المقبلة أن تحاول قطع السبيل أمام قيام نظام يستفيد من الظهير الديني لدى الجماهير. وسوف تستمر في الترحيب بكل ما من شأنه أن يوصلها لهذا الغرض، مثل العنف الشرطي والبطش العسكري والتوجيه الإعلامي والإقصاء السياسي والعزل المجتمعي وعدم الحياد القضائي، والأهم من كل ما سبق أنها ستمارس ما كانت تتهم به خصومها من إقصاء، وستضع كل من يعارض مشروعها في خانة العدو، ويأتي على رأس هؤلاء بطبيعة الحال الإسلاميين، بل وحتى حلفائها ممن يمتلكون رؤية مغايرة أو يعترضون على عنصر أو أكثر من عناصر تطبيق مشروع العلمانية الشاملة. السيناريو السابق يتضمن تضحية العلمانيين بالفكرة الديمقراطية والحريات. ومن المنطقي أن يؤدي هذا إلى التعجيل بظهور المشاكل بين أفراد هذه النخبة، في ضوء افتقارهم إلى أي قواعد تحكم عملهم وتتوزع على أساسها مكاسبهم، هذا التشاكس سوف يفتح الباب واسعا أمام العسكر للتدخل لوضع أيديهم على الحكم على نحو أكثر صراحة. وكما في الدورة التاريخية للانقلابات، يعادي العلمانيون الجماعات الدينية وينحازون إلى العسكر، قبل أن ينتهي بهم المطاف خارج السلطة من جديد لصالح العسكر الذين تحالفوا معهم، ويكون هذا الخذلان أقل مما يستحقونه في حقيقة الأمر.