02 نوفمبر 2025
تسجيليستعد رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان لإطلاق رزمة جديدة من الإصلاحات والتعديلات الدستورية والقانونية. وفي الوقت نفسه تتحرك عوامل خارجية لتثير قلق أنقرة وفي مقدمتها الأزمة السورية وحادثة إسقاط الطائرة السورية ومسار الاتفاق حول الأسلحة الكيماوية الذي عارضته تركيا بشدة على اعتبار أنه لا يوصل إلى إنهاء المجازر في سوريا ومعاقبة مرتكبيها. ومهما كانت التهديدات أو الأخطار الخارجية، وهي لا شك موجودة بقوة وقائمة ومفتوحة على كل الاحتمالات، غير أن العوامل الداخلية تبقى الأهم، إذ تنبع من داخل البيت، ومن كانت دعامات منزله غير متينة يبقى معرّضا للانهيار. لقد نجح حزب العدالة والتنمية في تركيا بقيادة أردوغان بالذات، بل بفضل هذه القيادة تحديدا، في أن يحقق إنجازات غير مسبوقة في تاريخ تركيا الحديثة. ولعل الإنجاز الأكبر تمثل في إنهاء نفوذ المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية أولا في استفتاء العام 2010 وأخيرا في إلغاء المادة 35 من نظام الخدمات الداخلية للجيش التي نصبت القوات المسلحة حارسا على الجمهورية ويحق لها التدخل حتى العسكري لحمايتها من أي أخطار. وقد حصر التعديل الجديد مهمة الجيش في الدفاع عن الحدود ضد الأخطار الخارجية فقط. والإنجاز الثاني لحزب العدالة والتنمية كان النمو الاقتصادي الذي وصل إلى مستويات متقدمة، رغم أنه بدأ يتعرض للاهتزاز في الأشهر الأخيرة ويواجه مخاطر في أكثر من مجال. الإنجازات التي حققها حزب العدالة والتنمية لا تلغي أنه ارتكب هفوات، بل أخطاء، بعضها يكاد يكون قاتلا في مسيرة الحزب وزعامة أردوغان. وفي مقدمة ذلك عدم رغبته في معالجة الأسباب العميقة للاحتجاجات التي شهدتها تركيا في يونيو الفائت وعرفت باسم "انتفاضة تقسيم- غيزي" والتي هزّت صورة الحزب وأردوغان وأسفرت عن قتلى وآلاف الجرحى والمئات من المعتقلين. لم يلتقط حزب العدالة والتنمية جوهر الاحتجاجات، وأكبر دليل على ذلك أنه وزع الاتهامات إلى الجميع من إسرائيل واليهود إلى إيران وسوريا وروسيا إلى الغرب وأخيرا اتهام جماعة فتح الله غولين الزعيم الديني الموجود في الولايات المتحدة بالوقوف وراءها. لا يمكن إغفال تأثر حركة الاحتجاجات بالعوامل الخارجية والتذكير بما بدأت عليه ثورة 25 يناير 2011 في مصر، لكن أكبر مشكلة وخطأ يمكن أن ترتكبها أي سلطة في أي مكان هي أنها تبقى طويلا في الحكم وبالأشخاص أنفسهم. بمعنى أنه مهما كانت المعايير الديمقراطية في بلد ما قوية وعالية فإن طول البقاء في السلطة يجعل تلقائيا من الزعيم شخصا غير ديمقراطي في أكثر من ممارسة. لذلك فإن رغبة أردوغان مثلا في أن يعدل النظام ليكون رئيسا للجمهورية بصلاحيات مطلقة تفيد أنه سيبقى في السلطة لمدة عشر سنوات أخرى بصفته الرجل القوي في النظام، تضاف إلى عشر سنوات سلفت، ليكون المجموع أكثر من عشرين عاما، وهذا أمر ليس فقط غير مستحب، بل هو مؤذ للحزب والزعيم والبلاد. صحيح أنه كانت هناك أمثلة على استمرار أحزاب لسنوات تفوق الثلاثين عاما كما هو الحال في اليابان، لكن القيادات كانت تتغير فتبث دماء جديدة في عروقها وفي نهجها وطريقة تفكيرها. ولو أن حزب العدالة والتنمية طرح السؤال على نفسه لماذا بدأ يواجه احتجاجات واضطرابات في الداخل قبل الخارج، ولماذا بدأت القوى المحيطة به مثل جماعة فتح الله غولين تنفض من حوله، ولماذا يخرج ممثل شهير أو كاتب عظيم حامل لجائزة نوبل للآداب معترضا على نهج الحكومة ويتظاهر آخرون من المشاهير في ساحة تقسيم ولا تتوقف التظاهرات، بل تنتشر في معظم المدن، بعدما كان الحزب يحظى بدعم جميع هؤلاء في المرحلة الماضية، لما واجه كل هذا الإرباك السياسي في الداخل ولما تعثرت عملية استكمال الإصلاح. لقد رفع أردوغان في انتخابات 2011 شعار وضع دستور جديد في حال فوزه في الانتخابات حينها. وقد فاز وبنسبة 50 في المئة من الأصوات، لكنه لم ينجح في وضع دستور جديد، وها هو يكتفي الآن ببعض الخطوات الإصلاحية التي لا يراها خصومه أنها تقدم أو تؤخر جذريا. بقدر ما تتسع زاوية الرؤية التي ينظر من خلالها المسؤول إلى قضايا أمته ويأخذ في الاعتبار هواجس الآخر ويعمل على ضخ دماء جديدة في شرايين الجسم الذي يبدأ بالتقادم، بقدر ما يرسي الاستقرار ويعزز فرص التقدم ويرسخ الديمقراطية، وكلها مظاهر باتت تركيا تواجه فيها تهديدات ومخاطر غير خافية على أحد.