15 سبتمبر 2025
تسجيلفي ظل معركة كسر العظم بين الحكومة الحالية بقيادة حركة النهضة، وبين أطياف المعارضة التونسية الليبرالية واليسارية والقومية، وفي ظل توازن الضعف بين هذه السلطة وقوى المعارضة، القوة الاجتماعية الأساسية التي بإمكانها أن تحسم الصراع لمصلحة هذا الطرف أو ذاك هو الاتحاد العام التونسي للشغل. فالذي حسم انتصار الثورة التونسية ضد النظام الديكتاتوري السابق هو الاتحاد حين نزل بكل ثقله في الصراع الجماهيري، وأصبح القوة الطليعية في قيادة الانتفاضة الشعبية. كذلك الأمر، في الوقت الحاضر، المعارضة التونسية بحاجة إلى تشكيل التحالف الديمقراطي الكبير، الذي يضم الاتحاد العام التونسي للشغل، من أجل قلب موازين القوى في البلاد، وإحداث نقلة نوعية في حركة الصراع السياسي لمصلحة القوى المدافعة من أجل تحقيق أهداف الثورة التونسية: الحرية، وبناء الدولة المدنية الديمقراطية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وفي سبيل تشكيل حكومة إنقاذ وطني، تشكل خشبة الخلاص للوضع المتأزم في تونس. على نقيض الواقع المصري، حيث لعب الجيش المصري دورا ً مركزياً في الإطاحة بالرئيس محمد المصري المنتمي إلى جماعة «الإخوان المسلمين»، حيث حافظ هذا الجيش على نوع من العلاقة المتميزة والمصداقية مع الشعب المصري التي تتيح له أن يكون الضامن الذي تحتكم إليه القوى الثورية الرافضة لحكم الإخوان المسلمين، من أجل حمايتها من سيطرة هذا الإخوان المسلمين، فإن في تونس، الذي يمتلك النفوذ القوي، والقادر على الحسم، هو الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يمتلك قوة قادرة على التأثير على الشارع، ويمكنه إطاحة الحكومة، وتغيير ترتيب الأوراق السياسية بسبب قوته العددية ووزنه السياسي والاقتصادي ويمكنه القيام بالدور الذي لا يستطيع الجيش القيام به. فالجيش التونسي أعلن أكثر من مرّة حياديته إزاء التجاذبات السياسية، وهو يريد أن يكون على مسافة واحدة من كل السلطة والمعارضة. فقد صرّح مصدر مقرب من المؤسسة العسكرية: «الجيش التونسي محايد ولن يتدخل، ليس من عادته لعب دور سياسي». ونظراً لهذا الثقل الجماهيري الذي يتمتع به الاتحاد العام التونسي للشغل في تونس حيث يبلغ عدد منتسبيه 517ألف عضو، العديد منهم كانوا منتسبين إلى «حزب التجمع الدستوري الديمقراطي » المنحل، فإن هذا الاتحاد أسهم في تشكيل الحكومة الانتقالية الأولى، وأسهم أيضاً في إسقاط حكومة الغنوشي الثانية، وباتت كلمته مؤثّرة في تسيير دفّة السياسة في البلد. ففي ظل حكم حركة النهضة، دعا الاتحاد العام التونسي إلى الشغل إلى الإضراب العام، مرّة عندما تم اغتيال الشهيد شكري بلعيد، والثانية عندما اغتيل الشهيد محمد البراهمي مؤخراً، وقدر اقتصاديون تكلفة إضراب عام ليوم واحد، دعا إليه يوم الجمعة 26 يوليو 2013،الاتحاد العام التونسي للشغل احتجاجاً على اغتيال المعارض القومي الناصري محمد البراهمي، بنحو 422 مليون دولار. وصرح الخبير الاقتصادي معز الجودي بأن الإضراب دفع سوق الأسهم إلى الهبوط ونزل بقيمة الدينار التونسي إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق أمام الدولار واليورو. ومثل هذا التأثير يمنح الاتحاد نفوذاً قوياً للقيام بدور في بلد يعاني ركوداً اقتصادياً وارتفاعاً في معدلات البطالة وهي مشكلات تزيد من النقمة الشعبية على الحكومة. كما زاد مقتل البراهمي وهو ثاني معارض تونسي يُغتال هذا العام بعد الناشط اليساري شكري بلعيد، وتوجّه أصابع الاتهام في مقتلهما إلى نشطاء إسلاميين. وهذا الوضع هو الذي سيدفع الحكومة التي تقودها حركة «النهضة» الإسلامية إلى قبول مطالبة المعارضة لها بالاستقالة. لقد شكّل الاتحاد العام التونسي حجر الزاوية في الحركة الوطنية في زمن الاستعمار، ولعب على الدوام دوراً رئيسياً في الحياة السياسيّة. وأبعد من كونه اتحادا نقابيّا مركزيّا، إنّه بالأحرى أقرب إلى منظّمة اقترنت فيها تاريخيّاً المطالب الاجتماعية بالبرامج السياسية والوطنية. وكان على خلاف ما يجري في سائر الدول العربية، تمتّع بشيء من الاستقلالية - كبيرة أو صغيرة بحسب المراحل - عن أجهزة الدولة. ومنذ انخراطه في الثورة التونسية، عمل الاتحاد العام التونسي للشغل على محو الحقبة السوداء التي عاشها في ظل حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، واستعادة عافيته، وتوسيع قاعدته بوصفه القوة الوازنة الرئيسة في البلاد التي استقطبت حوله ليس المنظمات الأهلية فحسب، وإنما أيضا غالبية الأحزاب الصغيرة. وبما أن تونس تعيش حالياً مخاض ثورة ديمقراطية عميقة، وهي بصدد بناء نظامها الديمقراطي الجديد، الذي قوامه بناء دولة الحق والقانون، وإقامة تعددية سياسية حقيقية، وإقرار مبدأ التداول السلمي للسلطة، فإن المشهد السياسي في تونس اليوم، وفي ظل هيمنة حزب النهضة على الترويكا الحاكمة، أصبح منقوصاً لجهة التوازن السياسي بين سلطة النهضة التي تحكم وقوة منافسة تعترض. غير أن من يملأ هذا النقص في المرحلة الراهنة هو الاتحاد العام التونسي للشغل.. الأقدم في لعبة الحقوق والمطالب. وقد ظهر بصفته رأس الحربة في «إزعاج» حكومة النهضة منذ ولادتها قبل سنة ونصف وإلى يومنا هذا، ورفع شعار «لا لتقزيم دور الاتحاد». وظل الاتحاد العام التونسي للشغل السلاح الاستراتيجي الفعال لأي قوة سياسية استخدمته أو تستخدمه للوصول إلى السلطة، ذلك ما ظهر جلياً بالنسبة للحزب الدستوري الجديد في عام 1956، ومحاولات الجناح الليبرالي من النظام لكسب دعمه، في صراعه مع الجناح المتصلب، إبان انتفاضة يناير 1978، وكذلك محمد المزالي، الذي أخفق في جرّ الاتحاد إلى مخططه السياسي خلال العام 1985. إنّ القمع الدمويّ لمظاهرات «ثورة الخبز» في تونس شتاء 1983-1984، والتزعزع الجديد للاتحاد العام التونسي للشغل وتوقيف قائده القديم الحبيب عاشور، واللّجوء المتزايد إلى القوّة في مواجهة المعارضة الاجتماعية والإسلامية من جانب النظام، وغياب الحزب السياسي الثوري، كلّ ذلك أسهم في أن يلعب الاتحاد العام التونسي للشغل دور الحزب السياسي المعارض في البلاد ساعياً إلى التحالف مع أي قوة سياسية بغض النظر عن طبيعتها وأهدافها، كانت مستعدة لإزاحة الحكومة، ولربما لتغيير النظام التونسي. ولعل ما يزيد توضيح هذه المسألة، التحالف الذي أقامه الحبيب عاشور مع «حركة الاتجاه الإسلامي » بزعامة الشيخ راشد الغنوشي، ووسيلة بنت عمار، في إطار صراعه من أجل إسقاط حكومة محمد المزالي في عام 1985. ولما أخفق هذا الأخير في احتواء الاتحاد بقيادة عاشور خلال أزمة الثمانينيات، مستفيداً من المعارك السابقة التي خاضها الحزب الاشتراكي الدستوري ضد المنظمة النقابية، عمل على تصفية القيادة العاشورية، مستغلاً التناقضات في الاتحاد من أجل تفجيره من الداخل وتشجيع الانشقاقات في صلبه، كما حصل مع القياديين السبعة، الذين أسسوا «الاتحاد الوطني » المدعوم من الحزب والحكومة في أبريل عام 1984. بعد خضوع الاقتصاد التونسي لبرنامج الإصلاح الهيكلي من قبل صندوق النقد الدولي في عام 1986، وانطلاق قطار الخصخصة الرأسمالية عبر بيع مؤسسات القطاع العام التي شملت نحو 220 منشأةً عموميّة، وبعد مجيء الجنرال زين العابدين بن علي إلى السلطة عبر الانقلاب الأبيض الذي نفذه ضد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة في 7نوفمبر1987، أسهم نظام ابن علي الديكتاتوري في تدجين الاتحاد، بعد إصراره على إبعاد الزعيم النقابي التاريخيّ الحبيب عاشور، وفي تفكيك الدور الذي لعبته النقابات في عهد بورقيبة بوصفها السلطة الوحيدة المضادّة للدولة، والقوّة المعدّلة للموازين في وجه الحزب الحاكم ذي النفوذ شبه المطلق. غير أنه مع انطلاقة الانتفاضة الشعبية من مدينة سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر2010، وضع الاتحاد العام التونسي للشغل كل ثقله في هذه الثورة عندما انتقل مركز ثقلها من منطقة الوسط الغربي (سيدي بوزيد والقصرين)، ليأخذ بُعداً وطنياً شاملاً. فكان ذلك التزاوج غير المفتعل بين النضال الاجتماعي والنضال الديمقراطي، الذي أسفر عن نجاح الثورة التونسية، باعتبارها ثورة من أجل الحرية والكرامة، وفي سبيل بناء نظام ديمقراطي جديد للحياة السياسية التونسية.