11 سبتمبر 2025
تسجيليرجع ابن سلام أسباب الانتحال إلى عاملين: القبائل التي كانت تتزيد في شعرها. وإلى الرواة الوضّاعين فيقول:"فلما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها استقلت بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم وكان قوم قلّت وقائعهم وأشعارهم فأرادوا أن يَلحَقوا بمن له الوقائع والأشعار فقالوا على ألسنة شعرائهم، ثم كانت الرواة بعد فزادوا في الأشعار التي قيلت وليس يشكل على أهل العلم زيادة الرواة ولا ما وضعوا ولا ما وضع المولّدون".ويشنع ابن سلّام على ابن إسحق ما فعله من تدليسٍ ووضعٍ في الشعر فيقول:"فلو كان الشعر مثل ما وضع لابن إسحق ومثل ما رواه الصحفيون ما كانت إليه حاجة ولا فيه دليل على علم".وكلام ابن سلّام لفت نظر المستشرقين والباحثين فأعادوا دراسة القضية وكانت البداية بنولدكه سنة 1864م وتلاه آلورد حين نشر أشعار الستة الجاهليين وخلص إلى أن أغلب الشعر الجاهلي الذي جاءنا غير صحيح، وأنّ النزر اليسير هو الصحيح، وتابع هذا الرأي مستشرقون آخرون مثل كارل بروكلمان ثم جاء مرجليوث فكان أبرز من أثار هذه القضية وقد لخص الدكتور ناصر الدين الأسد هذه المقالة حيث إنّ مرجليوث تشكّك في الشعر الجاهلي بناء على أدلة خارجية وداخلية، فأما الخارجية فيبدأ بالحديث عن القرآن الذي ذكر أنّ العرب أمةٌ عرفت الشعر، وأنه"كان قبل الإسلام بعض الكهان من بين العرب الذين كانوا يعرفون باسم الشعراء، كانت لغتهم مبهمة، كما هو الشأن دائما في الوحي".ثم يبدأ مرجليوث الحديث عن علماء المسلمين الذين تكلموا في نشأة الشعر الجاهلي وما شابها من غموض، والمذاهب المتباينة في ذلك، حيث أرجع قوم الشعر إلى عهد آدم عليه السلام وردها آخرون إلى عصر إسماعيل، وأن المهلهل أول من قال الشعر، وينتقل للحديث عن رواية الشعر فيستبعد أن يكون الشعر حُفظ بالطريقة الشفوية ويقرُّ بوجود بعض الكتابة للشعر الجاهلي، لكنه ينقض هذا الإقرار بالحديث عن لغة الكتابة فيقول:"وجود أدب فصيح قبل الإسلام بلغة القرآن وبالكتابة الحميرية، أو بأي خط آخر لأمر يبدو متناقضا". ويخص الرواةَ بحديثٍ خاص حيث يقول عنهم:"إنّ هؤلاء العلماء لم يكن بعضهم بعضًا، فابن الأعرابي كان يتهم الأصمعي وأبا عبيدة، وربما بادلوه اتهامًا باتهام، ولا شك في أنّ كلًا منهم كان يتهم الآخر".وأما الأدلّة الداخلية فإنّ مرجليوث يشير إلى القصص والألفاظ في الشعر الجاهلي، ليخلص إلى أنّ الديانة الوحيدة التي يصحُّ أنْ يعتنقها الشعراء الجاهليون هي الإسلام، وأن هناك أشعارًا جاهلية بها أحداث ذكرت في القرآن الذي يقول عنه مرجليوث بأنّه المصدر الوحيد للشعر الجاهلي.ومن أدلته الداخلية أيضا اللغة حيث يدور حديثه فيها على أمرين: الأول الاختلاف بين لهجات القبائل المتعددة، والاختلاف بين لغة القبائل الشمالية جملة واللغة الحميرية في الجنوب، ثم يربط بين أفكار الشعر الجاهلي وما ورد فيه من ألفاظ إسلامية، وبين لغة الشعر فيقول:"وكما أن وجود الأفكار الإسلامية مقطوع بجاهليتها دليل على وضعها وزيفها، فإن استخدام لهجة جعلها القرآن لغة فصحى أمر يدعونا إلى أن نشك فيها طويلا.. ويبدو أن المسلمين الذين جمعوا قصائد من جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية بلغة واحدة كان عملهم هذا متماشيا مع عملهم في جعل كثير من هؤلاء الشعراء، بل أكثرهم، يعبدون الله ولا يشركون به. إنهم يسحبون على الماضي ظواهر هم أنفسهم يعرفونها".وجاء الدارسون المحدثون فتناولوا قضية الوضع والانتحال، فنبه مصطفى صادق الرافعي على الوضّاعين والمنتحلين في الشعر مبينا أن السبب هو رغبة الناس في الطرائف، أو التعنت في إيجاد الحجة والبرهان، فيضطرهم ذلك للكذب.أما ما كتبه الدكتور طه حسين في هذه القضية فقد ملأ الأرض ضجيجًا، ونكتفي هنا بقوله: إن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبًا جاهليًّا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثّل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين، وأكاد لا أشك في أن ما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جدا، لا يمثل شيئا، ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة للعصر الجاهلي".ولست بصدد مناقشة أدلة الطرفين، فقد أفاض الدارسون فيها، ولكن أميل إلى الرأي الأول؛ لأن جلَّ الأدلة التي ساقها المشكّكون تعتمد على العقل، وما أثير من نقد الأقدمين للرواية والتنبيه على الصحيح والضعيف، وإذا فعلوا ذلك فإن الشعر خضع لعملية جرحٍ وتعديلٍ كبيرة، وَثّقت لنا كَمًّا لا بأس به من الشعر الجاهلي الذي قد تختلف رواياته بسبب اختلاف توثيقه ونقله وهذا أمرٌ طبيعي.