16 سبتمبر 2025

تسجيل

"صحيفة الفضائح" ضحية فضائحها

11 يوليو 2011

صحافة الاستقصاء عنوان الرقابة الشعبية على إهمال السلطة وحجبها للمعلومات حتى الحساسية التقليدية التي يبديها البريطانيون ضد كل ما يمكن أن يمس حرية الإعلام، لم تحل دون قبول المصير الذي نسجته صحيفة "نيوز أوف ذي وورلد" لنفسها. فبعد 168 عاماً على صدورها، تنقلت خلالها بين عدد من المالكين، لتستقر أخيراً في يد شركة "نيوز إنترناشول" التي يملكها روبرت ميردوخ، صدر أمس الأحد عددها الأخير تنفيذاً لقرار إغلاقها، صحيح أن هذا القرار لم يكن حكومياً، إلا أن حكومة ديفيد كاميرون قالت ما لديها، وكان على أصحاب الصحيفة أن يتصرفوا، ثم إن الخطوة الحاسمة لم تكن قضائية أو حتى سياسية، وإنما جاءت تلقائياً من شركات كبرى أعلنت تجميد أو إنهاء عقودها الإعلانية مع الصحيفة. أصبح معروفا السبب وراء هذه الفضيحة، وهو قرصنة الهواتف النقالة لمئات الأشخاص، بينهم المليارديريون والمشاهير والوزراء والساسة، لكن بينهم أيضا العديد من الأشخاص العاديين خصوصا أولئك الذين فقدوا أفرادا من عائلات أو كانوا هم أنفسهم ضحايا الهجمات الإرهابية في السابع من يوليو 2005م، فضلاً عن ضحايا لجرائم بشعة استقطبت اهتمام المجتمع البريطاني، ولتسهيل عملية التنصت كان لابد للصحيفة من التواطؤ مع خبراء كمبيوتر يعرفون البرامج الخاصة بهذا النشاط الذي يبقى حكراً على أجهزة الأمن، وبالتالي كان لابد من استدراج خدمات أفراد في تلك الأجهزة، وعندما كانت الأجزاء المكشوفة من الفضيحة تتعلق بالمشاهير والأغنياء والساسة، كان التعامل معها متروكاً للقضاء الذي حكم دائماً لمصلحة الضحايا، لكن عندما ظهر اتساع نطاق التنصت إلى المواطنين العاديين صعدت الحكومة احتجاجها وأرفقته بطلب تحقيق شامل، فأصبحت الفضيحة قضية داخلية متفجرة لا يمكن التستر عليها بذريعة أن إمبراطورية ميردوخ الإعلامية دعمت حزب المحافظين في انتخابات 2010م، مثلما كانت تدعم حكومات العمال أيام كان توني بلير على رأسها. كان رئيس الوزراء الحالي كاميرون اختار رئيس تحرير هذه الصحيفة اندي كولسون كأبرز مسؤول إعلامي لديه. لكن كولسون أحد مهندسي هذا النمط الصحفي الذي أدى أخيراً إلى هذه الكارثة، طبعاً اضطر كاميرون للتخلص سريعا من كولسون الذي أصبح الآن في السجن، ومع أن القضية تفجرت قبل نحو عامين إلا أن التنصت استمر حتى الأسابيع الأخيرة، كما أن الحل الجراحي الذي اختاره ميردوخ مضطراً وعلى مضض لن يشكل نهاية لمتاعبه، فالفضيحة قد تنعكس على إمبراطوريته الإعلامية، إذ أنه كان على وشك وضع يده على شركة "بي سكاي بي" وحظي لأجل ذلك بمساندة واضحة من الحكومة وسط استياء كبير في الأوساط السياسية والإعلامية والمالية، لكنه الآن يواجه احتمال إعادة النظر في مجمل هذا المشروع الذي يجعل منه وهو الأسترالي، سيداً للإعلام البريطاني الذي كانت الـ"بي.بي.سي" عنوانه الأول والأخير. فجأة، أصبحت الصحيفة الشعبية الأولى الصحيفة الأولى غير الشعبية، كانت "نيوز أوف ذي وورلد" تحلّق كل أحد بتوزيع ورواج يصلان إلى مليونين وستمائة وستين عدداً، تأتي بعدها "ميل أون صنداي" بـ"1.52" مليون، ثم "صنداي ميرور" بـ"1.09" مليون، أما أولى الصحف الجادة "صنداي تايمز" فتبلغ حصتها 1.05 مليون، ومع حصيلة إعلانية تبلغ 40 مليون جنيه إسترليني تحتل "نيوز أوف ذي وورلد" المرتبة الأولى أيضا بين الأسبوعيات، وما صنع هذه الشعبية هو شغف البريطانيين بالفضائح، حتى إن الصحف المتخصصة بأخبار المشاهير والأغنياء بالنسبة إليهم هي التي ورثت الصحافة المكتوبة بعد اجتياح المرئي والمسموع وحتى الإلكتروني للمشهد الإعلامي. وأصبح "ضحايا" هذه الصحف يعتبرون فضح شؤونهم الخاصة بمثابة "ضريبة شهرة" تأتيهم بمتاعب داخل أسرهم وأحيانا داخل أعمالهم لكنها تأتيهم أيضا بمزيد من الشهرة. هناك بينهم من أنهت "نيوز أوف ذي وورلد" حياته المهنية بسبب فضائحه الجنسية، لكن هناك مآسي اجتماعية متأنية من جرائم خطف وقتل أسهمت في التخفيف من حدتها. ما الذي دفع هذه الصحيفة إلى قرصنة هاتف صبية في الثالثة عشرة اختطفت وقتلت عام 2002م؟ ولماذا جرى التلاعب بالرسائل الصوتية الموجودة في ذاكرة الهاتف؟ ولماذا التنصت على عائلات جنود قتلوا في أفغانستان والعراق طالما أنها كانت تقول علناً كل ما تفكر فيه ضد الحكومة والمشاركة في هاتين الحربين؟ ولماذا التنصت على ضحايا الإرهاب أو الجرائم الأخرى؟ لا شك أنه اللهاث وراء الخبر وخلفياته، بل السعي إلى احتكار أي خبر، لكن الأكيد أن الجشع هو الذي جازف بأخلاقيات العمل الصحفي إلى حد رميه في الهاوية، لذلك بدت الفضيحة كأنها جرس إنذار لكل الصحف الشعبية، إذ طرحت التساؤلات حول وسائل التعاطي مع المصادر، علما بأنها يمكن أن تختصر عموما بالمال، إذ أن هذه الصحف كرّست تقليداً يشجع أياً كان على كشف ما يعرفه لقاء المبلغ الذي يحدده، وفي الأحداث الطارئة التي تتطلب تغطية سريعة واستثنائية يتزود الصحافي بمبالغ نقدية لشراء المعلومات مباشرة من الشهود العيان أو من الأشخاص الذين التقطوا صوراً أو يملكون خلفية لما حدث. بديهي أن الجمهور لا يريد موت هذا النوع من الصحافة في بريطانيا، فهو يجد فيها متنفساً لا توفره الصحافة الجادة المنمطة رغم تمتعها بحرية مشهود لها في تغطية القضايا الكبرى، من هنا إن قضية "نيوز أوف ذي وورلد" لم تكن لتأخذ هذا المنحى الانهياري لو لم تلجأ إلى أساليب متفلتة من أي ضوابط أخلاقية أو قانونية، بل لو لم تبالغ في توسيع دائرة المستهدفين بالتنصت، وفي كل الأحوال يبقى هذا الأسلوب مرفوضا حتى عندما تمارسه أجهزة الأمن، وهي لا تفعل إلا بطلب من السلطة القضائية المختصة أو وفقا لقوانين استثنائية كالتي تتعلق بالإرهاب، ولا شك أن مهنة الصحفي المخبر طالما شبهت بمهنة التحري المخبر لكن إزالة الفوارق بينهما لم تكن ولن تكون في مصلحة الصحافة تحديداً، والمؤكد أن الرأي العام يريد لصحافة الاستقصاء أن تنشط وتزدهر وتتجرأ لأنها باتت عنوان الرقابة الشعبية على إهمالات السلطة وحجبها الغريزي للمعلومات، لكن الذهاب بالاستقصاء إلى حد انتهاك الخصوصيات وتشجيع الابتزاز وترسل الرشى واللعب على دوافع الانتقام لدى الأشخاص المعنيين لا يقرب الصحفي إلى المخبر وإنما إلى رجالات المافيا.