15 سبتمبر 2025

تسجيل

فصل في أن الواقع لا يسير وفق المنطق

11 يونيو 2014

منذ ما يزيد على العامين طرحت هذه الزاوية وجهة نظر مفادها أن تولي العسكريين السلطة في مصر في أعقاب ثورة يناير يبدو أمرا مستبعدا، وذلك على أساس أن الأوضاع التي يسرت للعسكريين الانفراد بالحكم في الماضي لم تعد قائمة، وأن الظروف التي استخدموها لتبرير تواجدهم في قمة هرم السلطة قد تغيرت أو اختفي معظمها. وكان هذا التحليل بمناسبة الحديث عن وثيقة المبادئ فوق الدستورية التي سعى المجلس العسكري إلى إقرارها لضمان سرية المسائل المالية المتعلقة به، وضمان انفراده بالقرارات والتشريعات التي تخصه. حينها لم يدر بخلد أحد أن الدستور والحكومة والدولة يمكن أن تصبح في قبضة المؤسسة العسكرية من جديد، ولكن أثبتت الأيام الماضية أن الحيثيات المنطقية التي تم الاعتماد عليها في التحليل لا وزن لها في واقع لا يعبأ بالمنطق أو هو يسير عكسه على نحو كامل.فالمنطق كان يقضي باستحالة بث الحياة في الشعارات التي سهلت للعسكريين في الخمسينيات الاستيلاء على الحكم (من نوعية: تحرير كامل التراب الوطني، وحماية الاستقلال، وتحقيق الوحدة القومية) في المرحلة الراهنة نتيجة لاختلاف السياق والمعطيات. ولكن ما جرى في الواقع أن دبت الروح في الخطابات الشعبوية من جديد، فقط من خلال تغيير بوصلة الحديث من موضوعات الخمسينيات الساخنة إلى موضوعات من نوعية "الإرهاب المحتمل"، و "خطط تقسيم مصر"، و "الحلف الإخواني الأمريكي الإسرائيلي الإيراني" والتي رغم افتقارها إلى المنطق وإلى الحبكة اللازمة للإقناع، إلا أنها نجحت في تحقيق المقصود منها، وخلقت رأيا عاما مؤيدا لعودة العسكريين للحكم مرة أخرى!والمنطق كان يقضى بأن تغير التركيبة العمرية للشعب المصري لصالح فئة الشباب سوف يدفع غالبية المصريين إلى رفض هيمنة العسكريين على المشهد السياسي من جديد، على افتراض أن للشباب من الخصائص العقلية والنفسية ما يصدهم عن الانقياد وراء خطاب عسكري يوظف المشاعر أكثر مما يخاطب العقل. ولكن ما جرى في الواقع أن تمت برمجة عقول الكثير من هؤلاء الشباب ضد الثورة التي قاموا بها، وتم تأجيج الخلافات الفكرية فيما بينهم، ما أدى إلى شق الصف الثوري، حتى بدت كتلة كبار السن (المحافظة) أكثر تجانسا منهم وأكثر قدرة على تصدر المشهد السياسي، عبر التكتل خلف مرشحهم القادم من الماضي.والمنطق كان يؤكد على أن النخبة العسكرية التي تعرضت لما تعرض له غيرها من تجريف تخلو من القيادات الكارزمية القادرة على تحقيق أحلام المصريين في الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، بدليل أن المصريين لم يسمعوا طوال العقود الماضية عن أي قيادة تمكنت من تحقيق أي إنجاز في أي مجال (نظرا لكون الإنجازات كلها كانت محجوزة للرئيس). ولكن ما جرى في الواقع أن تم تصوير قائد الانقلاب على أنه بطل فوق العادة، وتم تقديمه للناس بوصفه الزعيم المنتظر، صاحب الإنجازات الجبارة، منقذ الوطن، الذي دمر عروش الإخوان وحطم جبروتهم، كل هذا من دون أي إنجازات حقيقية معروفة له.والمنطق كان يقضي بأن الأوضاع على المستوى الدولي، على خلاف أوضاع الخمسينيات، ليست في صالح صعود العسكريين. على اعتبار أن ظروف القطبية الثنائية التي استغلتها الأنظمة العسكرية لمصلحتها قد انقضت، ولم يعد أمام العسكريين فرصة الاستفادة من الموارد التي كانت تتدفق عليهم وتمنحهم نوعا من الشرعية الداخلية. ولكن ما جرى في الواقع أن قامت أنظمة الخليج النفطية بالقفز إلى صدارة المشهد، لتضخ الأموال بلا حساب، تأييدا لمشروع سياسي تعهد لها ألا تنتقل عدوى الثورات إليها، معتبرا أن أمنها يشكل جزءا من أمنه القومي، من دون أن يقدم أي أساس نظري أو فكري يدعم به هذا الاختيار السياسي.والمنطق كان ينص على أن انفراد قطب وحيد (الولايات المتحدة)، عقيدته السياسية تتمحور حول الديمقراطية والحكم المدني، بقمة النظام الدولي سوف يحول دون صعود العسكريين إلى السلطة. ولكن ما حدث أن الإدارة الأمريكية تعاطت إيجابيا مع خارطة طريق من وضع مجلس عسكري، وتماهت مع انتخابات جرت في ظل قبضة أمنية كاسحة وفي أجواء استبعاد لكل الخصوم السياسيين القادرين على المنافسة، واعتبرتها جسرا مقبولا للانتقال من الانقلاب إلى الشرعية.إذن المنطق كان يفترض أشياء وما جرى في الواقع أشياء أخرى، ما يوحي بان الواقع المصري لا يلتزم بالمنطق في حركته وتفاعلاته. ويبقى السؤال هل سيظل هذا الواقع على لا معقوليته، هل سيقبل الشباب الذي بذل دمائه من أجل حريته أن تسرق منه ثورته عبر انقلاب عسكري بديكور ديمقراطي، وهل سيقبل أن يستبدل بنظام مبارك نظاما يحل مشكلات الوطن بأساليب العسكر القسرية وقبضتهم الغليظة، وهل سيرضى الشعب الذي قضى جيلين تحت أنظمة تفتقر إلى كل مقومات الحكم الرشيد أن يخضع لقيادة كاريزميتها مصنوعة من خلال الصخب الإعلامي وليس من خلال الإنجاز الفعلي.لقد كان الطموح في أعقاب ثورة يناير أن تعود المؤسسة العسكرية إلى وضعها الطبيعي كمؤسسة من مؤسسات الدولة؛ تقوم على حماية حدودها واستقلالها وأمنها الخارجي، لا أن تقوم بدور الوصي على الشرعية أو الموجه للإرادة الشعبية. ولكن المفاجأة أن بعض القائمين على هذه المؤسسة تمكنوا ليس فقط من الحفاظ على وضع ما قبل الثورة، ولكن من ابتلاع الثورة والدولة معا، وسط حالة من الهستيريا الإعلامية المدعومة بصخب قطاع يعتد به من الجماهير، في مشهد سريالي يصعب فهمه أو فك رموزه، فإلى متى سيظل الكوكب المصري دائرا في مدار اللامنطق؟