13 سبتمبر 2025

تسجيل

المالكي متعثراً بسيطرته على الحكم

11 يونيو 2012

ليس معروفاً تماماً من يمكن أن يخلف نوري المالكي في رئاسة الوزراء، لكن ردود فعله على المشاورات والمحاولات لإزاحته بسحب الثقة منه أوحت وكأن خصومه السياسيين يمسون مقدساً، ورغم أنهم وإياه ينتمون إلى الثقافة السياسية ذاتها، المستمد بعض منها من معايشة الدكتاتور السابق وبعض آخر من تعرضهم لبطشه واستبداده، إلا أنهم يتصرفون حتى الآن في إطار ما تتيحه لهم "الديمقراطية" الناشئة في العراق. المشكلة أن الوسط السياسي العراقي استيقظ متأخراً لإبصار الواقع الذي نسجه المالكي، متجاوزاً الدستور والقوانين، ومدشناً أعرافاً وتطبيقات كان يفترض أنها أصبحت محرمة بعد سقوط النظام السابق، وهو استفاد من جملة عناصر، بينها الاستقطاب المذهبي والانقسام السياسي-الاجتماعي، لكن أهمها أنه جعل من شخصه نقطة التفاهم غير المعلن وغير المعترف به بين النفوذين الإيراني والأمريكي، وعلى هذا الأساس غدا رقما صعبا في المعادلة، خصوصا في مرحلة الاستعداد الأمريكي للانسحاب والتقدم الإيراني لتكريس وضع يد على الحياة السياسية في العراق. من هنا فإن الإزاحة أو الإطاحة لا تتوقف فقط على وجود إرادة سياسية داخلية، فالمالكي يعرف، كما يعرف الآخرون، انه لا يدين لهم بوجوده في منصبه، إذ حاولوا بعد الانتخابات في مارس 2010م، دفع مرشحين آخرين ولم يفلحوا، ورغم أن إياد علاوي استطاع إحراز التكتل الأكبر في الانتخابات، واعتبر نفسه مرشحاً طبيعياً لتشكيل، أو لمحاولة تشكيل، تحالف حكومي توافقي، إلا أن الرجل أفصح في مناسبات عدة عن أن طهران بادرت إلى رفضه، وأن الولايات المتحدة ما لبثت أن وافقت على إقصائه. وبعد أزمة استمرت تسعة شهور قضى "التفاهم الثنائي"، الأمريكي-الإيراني، بفرض المالكي رئيساً للوزراء بلا جدل، ولا منازع، وتولى الطرف "الوسطي"، أي التحالف الكردي، ترتيب تفاصيل الإخراج السياسي لما تقتضيه "الديمقراطية التوافقية"، وليس ما تقتضيه ديمقراطية صناديق الاقتراع. وهكذا كان اتفاق أربيل (ديسمبر 2010) الذي وضع تفاصيل الائتلاف الحكومي، وتضمن بنداً خاصاً بإنشاء مجلس أعلى للسياسات على أن يترأسه علاوي ويكون بمثابة الرقيب والوسيط الذي يشخص مصلحة الحكم وعلاقة الحكومة مع البرلمان وتكون له صلاحيات توجيه وتخطيط، صحيح أن المجلس هذا بدا أشبه بـ"ترضية" لعلاوي وفريقه، لكن فكرته ولدت عملياً من الأزمة نفسها، باعتبار أن الدستور والقوانين لا تستطيع وحدها إيجاد قواعد لـ"التوافق" الحكومي والسياسي وإنما تحتاج إلى مرجع ينظر في الخلافات ويقترح لها معالجات. لم يهتم المالكي بما نص عليه اتفاق أربيل إلا بكونه أنهى الأزمة بإبقائه في المنصب، ولم يكن متوقعاً أن يسهل أو يتعامل بأريحية مع إجراءات إنشاء "مجلس السياسات"، مستنداً إلى أن هذا جسم مستحدث ولا مجال لمده بصلاحيات يعود بعض منها إلى رئيس الوزراء (الحاكم الفعلي بموجب الدستور) وبعض آخر إلى البرلمان (مرجعية الرقابة الوحيدة على السلطة التنفيذية) ظاهرياً لم يعرقل المالكي الإجراءات، لكنه ترك المشروع يتعثر هنا وهناك، أما الأهم فهو أن رئيس الوزراء لم ينفذ ما يوجبه اتفاق أربيل، وكان أبرز ما نكث به عدم ملء الحقائب الوزارية المتعلقة بالقوات المسلحة والأمن والاستخبارات، ثم أنه توسع في الاستحواذ على القرار من خلال التحكم بالتعيينات للوظائف الأساسية، حتى أن حلفاءه المفترضين في "التحالف الوطني" (الأحزاب الشيعية الرئيسية) عانوا من الإقصاء الذي يمارسه ضد أنصارهم، أما السنة فراح يتجاهل المنتخبين منهم لتلميع آخرين لاعباً على المصالح والتناقضات لشق صفوفهم، ثم دخل في علاقات مضطربة ومتقلبة مع إقليم كردستان وفقاً لأجندات غامضة وغير مفهومة، إذ لم يستطع أن يوضح ما إذا كان يواجه الكرد باسم الحكومة المركزية أم لمصلحة زعامته الشخصية والحزبية. لذلك غدا وجود المالكي في الحكم، وفي هذا المنصب، إشكالياً وعندما غضب ممن وصفوه بـ"الدكتاتور" لم يحاول أن يثبت العكس فعدا أنصاره الحزبيين الذين يتعاملون معه باعتباره "الزعيم الأوحد"، ينقسم الآخرون بين خصوم كارهين أو أصحاب مصالح، وبين من يهابون شروره ومن يعتبرون أنهم يجب أن يكونوا دائمي الحذر من ضرباته، وأحد هؤلاء الأخيرين قال في حديث خاص: "لدينا رئيس وزراء يستخدم ميليشياه الخاصة عندما لا يرى ضرورة لتوريط القوى الأمنية في انتقام شخصي يريده. غير أن العبارة التي تختصر المشكلة الراهنة جاءت على لسان مسعود بارزاني حين قال إن المالكي يملك القرار السياسي والأمني والقضائي والمالي، ولا أحد يخالف عمليا هذا الرأي، فمن يسيطر على القوة والمال يتحكم بكل شيء. الفارق بين الحقيقة والتلفيق يمكن أن يكون أحياناً مجرد خيط رفيع، وهذا ما لم يتضح في قضية الاتهامات الموجهة إلى نائب الرئيس طارق الهاشمي، فقد يكون القضاء تصرف بما لديه من معطيات، لكن هذه لم تكن المرة الأولى التي توضع فيها علامات استفهام على مصداقية القضاء، والسبب، ببساطة، أن المالكي لا يتردد في استخدامه فأي إخراج آخر طبيعي ومحترم، كان سيؤدي الغرض إذا كان الهاشمي متورطا فعلا، لكن الطريقة التي اتبعت أساءت إلى كل السلطات والأجهزة، أي أنها أساءت إلى "الدولة"، إذ وشت بأن الهدف هو إقصاء سياسي بما له من أبعاد مذهبية. سيكون على المالكي أن يجري مراجعة كاملة لأدائه ولسياساته، إذا أراد أن يبقى في المنصب. صحيح أن الأزمة الحالية أظهرت أن لديه أوراقاً يستطيع أن يلعبها للمناكفة والتحدي وزيادة الانقسام، إلا أنه محكوم بنظام قائم على "التوافقية" أكثر من ذلك، إذا كان هناك توافق أمريكي-إيراني عليه، إلا أن الدولتين لم توظفاه ليدير العراق كأنه حاكم مدى الحياة، فالتوافق الخارجي يتكيف مع التوافق الداخلي ويحاول تطويعه، لكنه لا يخضع مصالحه كل الوقت لمزاج شخص واحد.