16 سبتمبر 2025

تسجيل

دستور تركي جديد ... مستحيل!

11 مايو 2013

تعكس الدساتير عادة التوجهات الأساسية للدول فيما تتضمنه من أحكام أساسية تترك للقوانين والاجتهادات والتعديلات اللاحقة مهمة توضيح وتفسير ما يكتنفها من ثوابت لا تتغير بسرعة أو نادرا.لذا لا توضع الدساتير لخمس أو عشر سنوات بل ربما لعقود. ويُراعى في وضع الدساتير أنها تعبّر عن مناخ عام يتصل بثوابت المجتمع وهويته وبالمصالح الاستراتيجية للبلد.ولا يتغير ذلك بتغير السلطة الحاكمة.وهذه مشكلة كبيرة تواجه الدول التي لا يترسخ فيها نظام ديمقراطي فعلي فتلغى الدساتير بشحطة قلم عند كل انقلاب عسكري أو عند تغير مزاج الحاكم. تركيا عرفت عبر تاريخها الحديث بأول دستور وضع في العام 1876 بجهود الصدر الأعظم المجدد مدحت باشا لكن السلطان عبدالحميد ما لبث أن انقلب على الدستور الجديد بعد عام فقط وحتى العام 1908 عندما اضطر تحت ضغط الحراك الشعبي والسياسي ليعيد العمل به.واستمر الحال على هذا النحو حتى إعلان الجمهورية عام 1923 ومن ثم إعلان دستور جديد حكم البلاد حتى العام 1960 حيث أعد الانقلابيون العسكريون دستورا في العام 1961 استمر حتى إعداد دستور آخر أعده أيضاً انقلابيو 1980 في العام 1982. دستور العام 1982 لا يزال هو الساري الآن رغم مرور أكثر من عشر سنوات على وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة والذي حمل مبدئيا أفكارا جديدة تخالف العديد من ثوابت دستور 1982.ويكفي أن دستور 1982 يوصف بدستور الوصاية العسكرية لندرك حجم الصعوبات التي تواجه إعداد دستور جديد. لقد أدخلت تعديلات كثيرة جدا على دستور 1982 وأهمها تلك التي حصلت باستفتاء شعبي في 12 سبتمبر 2010 والتي وضعت حجر الأساس لإنهاء نفوذ العسكر في السياسة. ومع ذلك فقد كانت خطوة في السياسة أكثر منها في الثوابت التي تحكم النظرات الأساسية لكل مكونات المجتمع التركي. وبعد ولايتين من حكم العدالة والتنمية بدأت ولاية ثالثة بعد انتصار الحزب في انتخابات 2011 ونيله ما يقارب الخمسين في المائة من الأصوات مقابل خمسين في المائة نالتها أحزاب المعارضة مجتمعة. وكان شعار رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان أثناء الحملة الانتخابية هو إعداد دستور جديد يعكس تركيا الجديدة. لكن بعد مرور سنتين على ذلك الوعد لم تسفر اجتماعات لجنة صياغة الدستور الجديد المكوّنة من كل الأحزاب عن نتائج عملية ولا يزال الخلاف قائما فيما بينها. الرئيس التركي عبدالله غول ربما كان قاسيا بحق جهود إعداد دستور جديد لكنه كان عارفا بصعوبة ذلك عندما قال إنه حزين لأنه لم يعد من وقت لوضع دستور جديد قبل وصول مواعيد استحقاقات ثلاثة كبيرة تحول دون العمل على دستور جديد في خضم الصراع السياسي وهي انتخابات رئاسة الجمهورية في العام المقبل وقبلها الانتخابات البلدية وبعدها في العام 2015 الانتخابات النيابية. العقبة الأساسية أمام دستور جديد هو غياب شبه الإجماع بين المكوّنات السياسية المعبرة عن الشق التركي من تركيا مقابل الشق الكردي الموحد خلف رؤية سياسية يمثلها حزب السلام والديمقراطية الكردي الممثل في البرلمان ومعه حزب العمال الكردستاني الذي يخوض حربا عسكرية ضد الدولة منذ ثلاثين عاما توقفت نهائيا مؤخرا. ذلك أن الحزبين الرئيسيين في المعارضة وهما حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية يمثلان ما لا يقل عن أربعين في المائة من الناخبين وهما يعارضان صيغ الدستور الجديد كما يقترحها حزب العدالة والتنمية ليس فقط من منظور سياسي بل أيضاً من منظور قومي يتصل بإعادة تحديد الثوابت التي وضعتها الدساتير السابقة ولاسيَّما مبادئ تعريف الهوية التركية والعلمانية وما إلى ذلك. يقف حزب العدالة والتنمية فيجد نفسه محروما من دعم نصف المعبّرين عن الهوية التركية وهو ما لا يعطيه حق التصرف بمفرده بمستقبل هؤلاء. ولقد حاول حزب العدالة والتنمية أن يغامر بالدخول بصفقة منفردة مع حزب السلام والديمقراطية الكردي لطرح دستور جديد على البرلمان لكنه يدرك جيدا حجم المخاطر من جراء تجاوز قسم كبير من القوى المعارضة له وسط المجتمع التركي نفسه. وقد يفعل حزب العدالة والتنمية حسنا،وإن مرغما، بعدم فرض دستور جديد على الشعب وسط هذه المعارضة لأن من شأن ذلك أن يبقى التوازن قائما وألا تتفرد قوة سياسية واحدة بمصير البلاد لعقود مقبلة حتى لو نال أي دستور جديد نسبة تفوق الخمسين في المائة.إذ أن الدول التي تحترم نفسها تفترض وجود شبه إجماع على دستورها إذا كان لها أن تنشد الاستقرار وألا تتغير الدساتير كما تتغير القوانين بسهولة وبسرعة. إن أكبر عقبة أمام الدستور التركي الجديد هو تحديد هوية تركيا ومجتمعها في ظل المتغيرات الحاصلة ولاسيَّما منها المسألة القومية المتعلقة بالأكراد والمسألة الديمقراطية وموقع العلمانية منها في ظل وجود حزب إسلامي التوجه في السلطة.وهو ما يجعل مهمة التوصل إلى دستور جديد كما قال عبدالله غول ميؤوسا منها في المستقبل القريب.