16 سبتمبر 2025
تسجيلفي جميع دول العالم تتجه المجتمعات من التخلف نحو التحضر، أو من التحضر نحو الأكثر تحضراً، في عملية تصاعدية، يرتقي فيها الإنسان بمفاهيمه حول القيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وهي سُنّة اجتماعية لازمت الإنسان منذ أن استوطن الأرض، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها. وكعادة القواعد العامة التي تجد لها شواذاً بين الفينة والأخرى، ربما يكون المجتمع اللبناني استثناء للسُنّة الاجتماعية الارتقائية التي تحدثنا عنها. ما يعنيني في هذا المجال تشخيص المجتمع اللبناني الذي كان ينقسم، قبل اندلاع الحرب اللبنانية،إلى ثلاث طبقات، طبقة الأغنياء وما تحمله من قيم أغلبها احتكارية واستعلائية وهي فئة قليلة، يقابلها طبقة الفقراء مع ما تحمله من قيم التسامح والتوكل والإيثار فيما بينها وعلى بساطة من العيش، وهي فئة قليلة وإن كانت أكثر عدداً من فئة الأغنياء، وبين الطبقتين فئة متوسطي الحال أو "الطبقة الوسطى"، وهي الأوسع والأكثر انتشاراً في الجغرافيا اللبنانية، وتتميز قيمها الاجتماعية والاقتصادية بالاعتدال والتوسط، فلا إيثار مطلق ولا احتكار فج،لدى أفرادها قيم اجتماعية غير معقدة، يتداخل فيها المثقف مع الموظف مع المزارع الميسور الحال إلى غير ذلك. خلال الحرب وبعدها وحتى يومنا هذا، تعددت الطبقات الاجتماعية في لبنان أفقيا وعامودياً، فتجد طبقة الفقراء ودونها طبقات تصل إلى "معدومي الحال" ممن لا يجدون قوت يوم كامل، ولا سكن ثابت، وتجد "طبقة الأغنياء"، وفوقها طبقات تصل إلى فئة الملياردرية المتنفذة في المال والسلطة في لبنان وخارجه، في حين تلاشت "الطبقة المتوسطة" لصالح طبقات الفقراء، في حين قلة فقط منها التحق بركب طبقات الأغنياء. وسط هذا التمزق لطبقات المجتمع الثلاث، تعم المجتمع اللبناني في مدنه وأريافه،اليوم، ظاهرة قلما يلتفت لها الناس، وهي ظاهرة "قطع الطرق" لإظهار الامتعاض، أو المطالبة بحق ما. خلال الحرب اللبنانية بين الطوائف والأحزاب، كان "قطع الطرق" أحد أساليب المقاتلين في إظهار حضورهم ونفوذهم، ووسيلة في تحصيل المال عبر المكوس التي تفرض على العابرين. وقد تطور مفهوم "قطع الطرق"، مع تطور اللبنانيين لمفهوم الحرب والسيادة، وتحول المسمى إلى اسم "الأمن الذاتي" أو "المربعات الأمنية" في إشارة إلى المناطق والأحياء والشوارع التي تحيط بأماكن المسؤولين في الدولة وبعض الأحزاب، حيث يعمد الأمن الذاتي التابع للشخصيات السياسية، وما أكثرها، إلى قطع هذه الشوارع بحجة حماية الشخصية السياسية، حتى لو أدى قطع الشارع إلى ازدحام مروري خانق، يعاني منها المواطن. ما نلاحظه اليوم أن ظاهرة "قطع الطرق" تحولت إلى مفهوم ثقافي واجتماعي في المجتمع اللبناني حيث لم تعد تقتصر على الأحزاب والمليشيات المسلحة أو أمن الزعماء والسياسيين بل تغلغلت إلى جميع قطاع وفئات المجتمع اللبناني. فلا تعجب إذا أخبرتك أنه قبل فترة، عمد أساتذة المدارس ومتعاقدوها إلى قطع الطرقات العامة في طرابلس للضغط على الحكومة للاستجابة لمطالبهم. كما أن المدافعين عن حقوق الموقوفين الإسلاميين في السجون لجؤوا إلى قطع الطرقات والاستيطان في الساحات العامة لإعلاء الصوت في وجه الحكومة من أجل موقوفيهم. ثم ما قام به هذا الأسبوع سكان "جلّ – الديب" على طريق بيروت – طرابلس الشام، حيث قطعوا الطريق العام، احتجاجا على عدم بناء الدولة لهم جسرا، بدلاً من ذاك الذي أزالته الحكومة من أجل تخفيف الزحمة، ما دفع العابرين للطريق العام، الذي يتسع لعشرة خطوط على المسارين، أن يترجلوا من سياراتهم ويعبروا الحواجز المنصوبة من قبل الأهالي على أرجلهم، في ظاهرة مصغرة لمشهد يوم القيامة. الأمر نفسه تكرر قبل أسبوعين على الطريق الدولية التي تصل البقاع ودمشق ببيروت،ما يعني أننا أمام ظاهرة تقطيع المناطق والمحافظات والمدن من قبل المجتمع أو الشعب نفسه، وأن الأمر لم يعد يقتصر على حاملي السلاح والمحاربين وإنما طال المجتمع كله بكل فئاته وعلى رأسهم النخب الثقافية.. أمر مخيف حقاً أن نصل إلى قناعة أن "قطع الطرق" السبيل الوحيد لتعيش بكرامة وعزة في بلد فيه من المشاكل والتحديات ما تعجز عنه أموال قارون.