14 سبتمبر 2025
تسجيلخلال سنة واحدة، وتحديداً في الفترة ما بين إعلان فوز الرئيس المعزول والمأسور محمد مرسي – فك الله أسره – بالرئاسة في أواسط 2012 وحتى انقلاب العسكر عليه في قائظ يوليو 2013 تغيرت صورة الإخوان المسلمين الذهنية في كثير من الأقطار العربية، لتتكون الصورة الأبشع لها في تاريخها، بل أحسبُ أن بشاعتها لم تصل للصورة التي رسمها عسكر 1952 !. فماذا جرى، وكيف تحولت جماعة وصلت لحكم أكبر وأهم بلد عربي بشكل ديمقراطي نزيه بشهادة العالم، لتتحول بعد عام واحد لجماعة سوداوية إرهابية مخيفة؟. أعود إلى العنوان أعلاه لتأكيد قناعة شخصية لا أشك لحظة في صحتها – وإن خالفني البعض - أن هناك كماً هائلاً من الافتراء والكذب والتدليس حدث ضد الإخوان المسلمين، سواء اتفقت أنت أيها القارئ مع رؤاهم ومبادئهم أم لم تتفق، وسواء أحببتهم أم كرهتهم، فحديث اليوم يأتي من باب الكشف عن حق أبلج، ودرءاً لباطل لجلج. الإخوان منذ ثمانينيات القرن الفائت، وصورتهم في العالم أنهم جماعة إصلاحية تعمل لخير أمتها، وفق منهج معين لا يتصادم مع عقيدتها وشريعتها بشكل عام، وإن حدثت بعض الاختلافات في الآراء والتوجهات، فإنها ضمن الإطار الكبير العام للإسلام. وعُرف عن الجماعة انتشارها الواسع في أرجاء المعمورة. تعمل بوضوح وعلانية. لا تعاديها الأنظمة أو الشعوب إلا بقدر منطقي عادل ومفهوم، الذي هو نصيب أي أحد يعمل ويتحرك في وسط عام فيه خليط من الأفكار والتوجهات والمصالح، وهذا ما حدث مع الإخوان لكن ضمن إطار معقول، إلا من بعض ممارسات كان يتبعها نظام مبارك مع الجماعة بين الحين والحين، لكنها لم تكن بالبشاعة التي عليها الآن. ◄ التحول الكبير ضد الإخوان حدث التحول عند بدء موجات الربيع العربي أواخر 2010، التي بدأت الأولى في تونس ثم تبعتها مباشرة في مصر. إذ توقع أكثر المتفائلين أن تستمر الثورة أياماً معدودة، يخرج بعض الألوف لوقت قصير ثم ينتهي الأمر كما كان شائعاً في عهد مبارك، ولم يكن يتصور أحد أن يتزحزح رئيس مثله بالسهولة التي حدثت – بغض النظر عن التفاصيل - لكن ما يهمنا في القصة، أن الثورة المصرية ما أخذت زخمها إلا بعد دخول الإخوان إليها، ليبدأ شريط الأحداث المتوالية حتى شهد الشعب المصري أول انتخابات حرة نزيهة في تاريخ بلاده العريق، وفيها اختار المواطن المصري لأول مرة رئيس الجمهورية دون إكراه، أو شعور بأن التزوير حاصل لا محالة.. وشارك المصريون في الانتخابات على مرحلتين، فاز فيها الرئيس مرسي، وسلم الجميع بذلك ولكن إلى حين من الدهر قصير.. حتى بدأ التحول الرهيب بأشهر عدة قبل الانقلاب العسكري. سادت أجواء غير معتادة في مصر، بعدما ارتفع سقف الحريات الإعلامية إلى درجة لم ولن يراها مرة أخرى الشعب. قام كثيرون ممن رحبوا بالإخوان بادئ ذي بدء ونافقوا العهد الجديد لحين من الدهر لم يطل كثيراً، يعادون الإخوان بصور شتى، وبدأت عمليات تشويه صورتهم بجرأة غير معهودة، حتى كان المراقب للأحداث يشعر وكأنما قوة ما تدفعهم لهذا العمل، دون أدنى خشية من عقاب أو ردة فعل عنيفة من النظام الحاكم، كما هو المعتاد من الأنظمة العربية بشكل عام. استمر التشويه الإعلامي المتعمد للنظام الحاكم مع التركيز على الإخوان كجماعة ورموز، ترافقه فوضى مجتمعية قامت عليها حركات وأحزاب ظهرت كأعشاب برية نمت سريعاً من بعد غيث، شوهت الحياة في مصر، وتعمدت ملامسة حياة المصري البسيطة في مأكله ومشربه وأمنه، حتى اكتملت مربعات الصورة المشوهة والمطلوبة أن تلتصق بالإخوان، فزاد التململ والذم والحنق في مصر على كل شيء، وإتهام النظام الحاكم ودوره الأساسي فيما يحدث، وربط كل تلك السوءات والفوضى بالثورة والعسكر، وكان النصيب الأكبر بالطبع لجماعة الإخوان المسلمين. جاء الثالث من يوليو 2013، ليصبح الشعب المصري على واقع جديد، ظاهره الرحمة وباطنه العذاب الشديد. استيقظ الشعب ومعه الشعوب العربية على صبح شبيه بصبح انقلاب عسكر 1952 ليشهدوا نهاية أول وأقصر حكم مدني لم يفرح به المصريون طويلا، ليعود العسكر تارة أخرى ولتبدأ أبواب الجحيم تُفتح تدريجياً للجماعة، التي كشفت للمصريين والعالم كله، أن إدارة البلاد بأيد مدنية أمينة، أمر ممكن القيام به على عكس ما أشيع منذ طرد الملك فاروق واستيلاء العسكر على البلاد، أن مصر لا يستقيم أمرها إلا تحت يد فرعون أو ديكتاتور أو متسلط أو سمهم ما شئت. انكشفت الأمور سريعاً في الأيام الأولى للانقلاب، وظهرت قوى خارجية كشفت عن نفسها مبكراً دون استحياء، بمعية الدولة العميقة.. السعودية والإمارات، أبرز تلك القوى، والمنح المليارية للعسكر، تتبعهما بعد قليل الولايات المتحدة وبقية الغرب، أصحاب المعايير المزدوجة.. الكل أتفق بشكل وآخر على تثبيت حكم العسكر في مصر إلى ما شاء الله أن يكون. هذا أولاً، ثم ثانياً وهو الأهم: ضرورة توجيه ضربة قاصمة للجماعة الوحيدة المنظمة، والقادرة على استيعاب الشعوب وإدارتهم، وهي جماعة الإخوان، وأهمية رسم صورة ذهنية لهم تكون جديدة لكن مشوهة في أذهان الشعوب، وبدأت أبوظبي المسيرة بقمع وقهر أعضاء الجماعة في الإمارات باعتقال العشرات من المصلحين، وتشويه صورتهم وملاحقتهم هنا وهناك. ثم الضغط على السعودية لتسير في ركابها وهو ما حدث سريعاً، حيث توالت الضربات الظالمة ضد الجماعة في السعودية، تبعتها وما زالت، مصر وبصورة فاقت محنة الخمسينيات والستينيات.. ◄ الإخوان إلى أين؟ بعد سنوات خمس عجاف - إن صح التعبير- عاشها وما زال يعيشها المصريون، أدرك كثير منهم خطأ الوقوف مع حملات تشويه الإخوان، وأدركوا مغزى (أُكلتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض). وأدركوا أن الإخوان، وإن أخطأوا في بعض ممارسات سياسية، لكنهم لم يكونوا أبداً ببشاعة العسكر، بل لو – على سبيل الافتراض – تُرك الإخوان يديرون البلد لفترة رئاسية واحدة فقط، ما كان ليحدث للمصريين كل ما يحدث لهم الآن. والمساحة ها هنا أضيق من أن تتسع لسرد الآلام والمصائب التي تسبب العسكر فيها ضد الشعب المصري بجميع أطيافه. أبوظبي والرياض تدركان تماماً أنه بعد سنوات من مطاردة وقمع أو قهر رموز هذه الجماعة، صارت محاربتهم للإخوان أشبه بالحرث في البحر، لأن الإخوان فكرة وليست جمعية خيرية أو إصلاحية، تنتهي بإغلاقها. إن تطرفهما الشديد في قمع الإخوان، لاسيما نظام أبوظبي، الذي أعلن حربه على كل ما يمت للإسلاميين بشكل عام والإخوان بشكل خاص، دفع بالكثيرين لدراسة وفهم أمر هذه الجماعة، سواء في العالم الغربي أو العربي، وهذا ما يدعوني إلى القول إن: المحنة التي تمر بها الجماعة ستكون منحة لها بصورة ما بإذن الله. نقطة أخيرة في هذا السياق تتعلق بالذين مارسوا كل أنواع النقد ضد الإخوان، سواء من الإسلاميين أو غيرهم، وكثرة حديثهم عن خطأ دخولهم انتخابات الرئاسة، وأنه أُس المشكلات في مصر الآن ! هكذا قال كثيرون، وهو منطق غير سليم، وفيه تنظير وتجن واضح على أناس فكروا فقدّروا ثم قرروا المشاركة بناء على استقراءات واستشرافات، لأنهم باختصار، لو لم يدخلوا، كان الجميع سينتقدهم، ولمَ لم ينتهزوا فرصة وقد لاحت لهم؟ قرروا الدخول لأنه لم يكن هناك من يضمن ألا يقوم أي نظام حكم جديد بالبطش بهم، بعد ثبوت دورهم القوي في الثورة؟ ثم إن فرصة لاحت لهم كما لجميع الأحزاب الأخرى في مصر لإدارة البلد بعد عقود من حكم العسكر، والجميع سعى لانتهازها على أمل الفوز برئاسة وإدارة البلد وإصلاحها، فلماذا يجب عليهم وحدهم التريث عن هذا المطلب أو الواجب الوطني؟ أما القول بإن الإخوان لم يكن عندهم برنامج إصلاح أو إدارة دولة، فهذا قول أسخف من سابقه. فهل عسكر مصر مثلاً كانوا يملكون برنامجاً وهم ينقلبون ويسرقون الحكم من المدنيين؟ أم عسكر الجزائر أم القذافي أم زين العابدين أم غيرهم كثير؟ الكل جاء للحكم بصور غير مشروعة وبدأ يتخبط يمنة ويسرة ويحكم لعقود وسكت الناس، فلماذا نطق الجميع حتى الحجر، وانتقد الإخوان وهم بلا شك أفضل من كثيرين ممن سبق لهم أو ما زالوا يحكمون في البلاد العربية؟ ◄ خلاصة القول الجماعة لها رؤية ومنهج، سواء اتفقنا معها أم لم نتفق على أجزاء منها، لكن من المؤكد أنها قادرة على لملمة وتوحيد الكثير من الجهود، وهي أمور لا تتوافق بالطبع مع مزاج الخارج أو الاستعمار القديم. بصورة أخرى، الجماعة فيها بذرة مشروع توحيد على مشتركات كثيرة، وأي تمكين لها لممارسة الحكم عملياً، من الممكن أن تصنع الكثير، وأمثلة واقعية تشهد على ذلك. ماليزيا وتركيا هما أبرز النماذج إلى الآن، وهي أنظمة فيها بعض روح الإخوان، وصنعت ما صنعت، فما بالك لو كانت الروح كاملة، ما كانوا يصنعون؟. [email protected]