14 سبتمبر 2025
تسجيلأن تجمع الناس على رأي واحد في مسائل الدين أو الدنيا، أمر صعب المنال، بل ليس هو الفقه الصحيح ولا هو المستحسن من الفعل، ولا هو كذلك من هدي السلف الراشد، باعتبار اختلاف البشر أنفسهم في تكويناتهم وثقافاتهم وبيئاتهم، ولكن بالتسديد والمقاربة، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وصولاً إلى الجدال بالتي هي أحسن، يمكن تحقيق نتيجة مقبولة يرضاها الجميع. هذه خلاصة مقال اليوم. وحول هذه النقطة ندندن اليوم، فمن أحب الاستزادة والتفاصيل، يصبر ويتصابر معي بعض الشيء حتى النهاية. لو تتأمل قوله تعالى في سورة الروم (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) لوجدت الفكرة الرئيسية الرابطة بين خلق السموات والأرض وتنوع بني البشر في ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم، هي الاختلاف. وهذا الاختلاف آية من آيات الله، يمر عليها كثيرون دون عميق تأمل وكثير تفكر. فجميع أهل الأرض – كما جاء في تفسير ابن كثير - منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة: كلٌ له عينان وحاجبان، وأنف وجبين، وفم وخدان. وليس يشبه واحد منهم الآخر، بل لا بد أن يفارقه بشيء من السمت أو الهيئة أو الكلام، ظاهراً كان أو خفيا، يظهر عند التأمل، كل وجه منهم أسلوب بذاته وهيئة لا تشبه الأخرى. ولو توافق جماعة في صفة من جمال أو قبح، لا بد من فارق بين كل واحد منهم وبين الآخر (إن في ذلك لآيات للعالمين). علماء هذا الزمان - كما يقول الشهيد سيد قطب - يرون اختلاف اللغات والألوان؛ ثم يمرون عليه دون أن يروا فيه يد الله وآياته في خلق السماوات والأرض، وقد يدرسون هذه الظاهرة دراسة موضوعية، ولكنهم لا يقفون ليمجدوا الخالق المدبر للظواهر والبواطن. ذلك أن أكثر الناس لا يعلمون (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا)، وآية خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان لا يراها إلا الذين يعلمون (إن في ذلك لآيات للعالمين). شخصنة الخلاف ليس في النقاش وما ينتج عنه من اختلاف في الآراء أي غرابة، بل إنه الطبيعي أو هو المطلوب أن يكون في كثير من أمور حياتنا، بما فيها الدينية من تلك التي لم يأت نص قطعي الثبوت والدلالة بشأنها من القرآن والسنة، وما عدا ذلك فالدين أوسع من ذلك وأيسر. الغرابة حين يتم شخصنة الأمور ليتحول الاختلاف إلى خلاف، والفرق بينهما كبير؛ الأول رحمة وسنة كونية، والثاني مفسدة ومضيعة للوقت والجهد، والمال أحياناً. ذلك حين يعتبر صاحب رأي ما، أن معارضته ومخالفته إنما القصد إحراجه – أو هكذا يذهب به الظن – فتندلع معركة بين صاحب الرأي ومخالفيه، معركة ليس لها أي داع، وأحسب أن هذا هو الحاصل في كثير من مواقع النقاش والجلسات والمنتديات والمؤتمرات. إن مما أجمع عليه علماء الأمة منذ عهد الصحابة الكرام إلى يومنا هذا، أنه لا يجوز إكراه الغير على رأي مختلف عليه، فما يراه عالم أو فقيه في مكان ما قد يخالفه آخر، لكن لا تجد أي أحد منهما يعتبر رأيه هو الصواب ورأي مخالفه خطأ، إنما لكل منهما اجتهاده وأجره، فمن شاء من العامة أن يأخذ برأي أحدهما، فله ذلك دون أن يعيب على الرأي الآخر وصاحبه ومن يتبعه، هكذا هو الأصل، وهذا النوع من الثقافة هو المطلوب نشره. من قصص الاختلاف الراقي قصة عدم إقامة صلاة العصر إلا في بني قريظة من بعد غزوة الأحزاب، وانقسام الصحابة في فهم الأمر النبوي، مثال واضح يصلح للاقتداء والتوجيه إلى آخر الزمان. حيث صلى البعض من الصحابة حين دخل العصر وهم بعد لم يصلوا آطام ومساكن بني قريظة، فيما البعض الآخر فهم الأمر النبوي أنه لا إقامة للصلاة إلا هناك، وإن فات الوقت، وهذا ما حدث لهم، وحين سمع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بخبر الفريقين من أصحابه، لم يعنّف أي فريق، لا الذي لم يصل في بني قريظة كما أمر، ولا الفريق الذي أخّر الصلاة حتى فات موعدها. قصة ثانية حدثت حين أراد الخليفة العباسي من الإمام مالك بن أنس أن يجمع الناس على مذهب واحد، فقال له الإمام: "إن أصحاب رسول الله اختلفوا في الفروع، وافترقوا في البلدان وكلٌ عند نفسه مصيب"، ورفض أن يُكره الناس على ما اجتهد فيه، وبالمثل يرى الإمام أحمد بن حنبل وأنه لا ينبغي للفقيه أن يجبر ويحمل الناس على مذهبه، والتشدد في هذا. قصة ثالثة أخيرة كما جاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري ــ رضي الله عنه ـ قال: كنا نغزو مع رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ في رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجدُ الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام، فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفاً فأفطر، فإن ذلك حسن. قصة نموذجية تشير إلى مسألة تقبّل الخلاف وتفهّمه بين الصحابة الكرام، حيث لم يعب الفريق الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم أيضاً، بل احترم كل فريق رأي واجتهاد صاحبه، والرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم – بينهم، لم يرجح قول هذا ولا ذاك، بل ترك الأمر واسعاً رحباً كما هو دين الإسلام. ورأي غيري صواب أيضاً حتى نخرج بفائدة واحدة لا أكثر من هذا الحديث، أعود وأكرر القول بأن اجبار غيرك على رأيك، ليس سوى قمة التطرف والبعد عن الرقي في التعامل أو الذوق بلغة العصر. إن اجتهدت في رأي ووصلت الى قناعة أنه صواب، فلك أن تقول به وتدافع عنه، ولكن دون أن تقلل من شأن آراء أخرى تخالفك، فإنه مثلما اجتهدت أنت واقتنعت بصوابية رأيك، فكذلك غيرك كثيرون اجتهدوا ووصلوا إلى قناعات بصوابية آرائهم أيضاً، وبالتالي لك ولهم أجر الاجتهاد، وليس عليك وزر من لم يأخذ برأيك أو برأي مخالفيك، فالناس لهم قلوب يفقهون بها، وآذان يسمعون بها. لكن أن تدخل في جدال عقيم ومراء لا جدوى منه لأجل اثبات صوابية وصحة ووجاهة رأيك وخطأ الآخرين، فهذا فرط استهلاك لوقتك وجهدك ومالك بعض الأحيان، ولا طائل من ورائه، وحين قال الإمام الشافعي في زمنه: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، فإن كثيرين في زماننا هذا، من بعد فهم عميق وللحيلولة دون فتح منافذ الخلاف والشقاق، قاموا بتعديل مقولته وأن "رأي غيري صواب أيضاً ويحتمل الخطأ". لماذا أفترض منذ البداية أن رأي غيري خطأ؟ لم لا أبدأ بوصف رأيه كما وصفت رأيي الشخصي، فأقول بالمثل: ورأي غيري صواب يحتمل الخطأ؟ إنك ها هنا تعمل على أن تتساوى الأمور والشعور، وبالتالي تعمل على سد باب الخلاف منذ البداية. إن مساحات الاتفاق واسعة شاسعة متعددة، يمكننا التعاون والعمل معاً فيها، بدل الخلاف على هامشيات وفرعيات تأخذ من الجهود والأوقات والأموال، الكثير الكثير، تلك مفاهيم تحتاج منا لكثير تأمل وعميق تفكير. فأين الناس من كل هذه المفاهيم؟ [email protected]