14 سبتمبر 2025

تسجيل

بين الأمة والدولة

11 مارس 2015

يتفق المختصون على أن الجذر اللغوي لكلمة دولة في اللغات الأوروبية “estate” وكلمة “دولة” في اللغة العربية متناقضان على نحو تام، ففيما يشير الأول إلى الاستقرار والاستمرارية، فإن الثاني يشير إلى تقلب الأوضاع وتغيرها.لهذا فإن الترجمة الصحيحة لما يسميه الغرب بلغته “دولة” هو باللغة العربية “أمة” (حيث القصد والغاية وليس التقلب والتغير). وما يدفع باتجاه هذه الترجمة أنه “في إطار المعنى الديني والثقافي في التقليد الإسلامي يعد مفهوم الأمة أرسخ من مفهوم الدولة”، فالأمة مفهوم عضوي جامع، يفترض هدفا موحدا للجسد السياسي، يجمع أطرافه إلى بعضها البعض، ويمنعها من التحلل والانقسام. وكما لاحظ نزيه الأيوبي فإن مفهوم الأمة كان هو “المفهوم المركزي في الخلفية العربية والإسلامية، فيما لم تكن الدولة جزءا أساسيا من تفكير معظم المفكرين الذين ناقشوا قضايا الإصلاح والنهضة، ولم يكونوا معنيين على نحو كبير بدراسة الدولة كفكرة غربية أخذت مكانها وسط مفردات الواقع السياسي بقوة الأمر الواقع”.وحتى عندما تم الاعتراف بالدولة “الحديثة” كأمر واقع فإن مفهوما مشتقا من “الأمة الإسلامية” نازعها الانتشار في الخطاب السياسي والفكري، وهو المفهوم المتعلق بالأمة العربية أو القومية العربية. فيما ظلت الدولة القُطرية دوما على هامش الاهتمام، حيث كان ينظر إليها على أنها تصنيف إداري أكثر منها مناط للهوية والانتماء.ومن أبرز من نظروا لفكرة الأمة — الدولة في عالمنا العربي الدكتور حامد ربيع؛ عالم السياسة والمفكر القومي الشهير، والذي مثل استثناء هاما في تأكيده على مركزية الأمة / الدين كأساس للتكوين السياسي في العالم العربي، في وقت كانت معظم الاتجاهات القومية إما علمانية معادية أو مهمشة للدين في أحسن تقدير.والأمة عند ربيع تشير إلى معنى الجماعية، وفي إطارها تتراجع الثنائيات الحدية التي تجعل الفرد في مواجهة الدولة، والمدني في مواجهة الديني، والمَصلحي في مواجهة الأخلاقي، فالترابط هو الأساس، والعلاقة العضوية هي كلمة السر في التكوين السياسي. وإذا كانت الروح الفردية الراغبة في التحرر من سلطان الكنيسة، هي التي أفرزت الدولة الغربية الحديثة، فإن معنى الترابط والروح الجماعية (التي صنعها الجامع أو المسجد) هو الذي انبثقت من خلاله الأمة الإسلامية. وإذا كان مفهوم الأمة قد تراجع لصالح مفهوم الدولة فليس أقل من محاولة إصلاح “الدولة” على أساس من مفاهيم وقيم الأمة، وذلك بأن تصبح الدولة كيانا ذا عقيدة، تمثل الدعوة قلبها النابض، هدفها ليس زيادة الثروة، وليس تحقيق الهيمنة المادية، وليس فرض نمط اقتصادي أو استهلاكي معين على العالم، ولكن الدعوة ونشر النمط الأخلاقي والسلوكي الذي بعثت من أجله إلى العالم. والدولة الإسلامية، عند ربيع، تستخدم قوتها كأداة لتبليغ الرسالة وتحقيق الأهداف الثقافية والأخلاقية. ولا ينحصر دورها الحضاري في إطار وظيفتها السياسية، وإنما هي تدمج المثل الأخلاقية مع الأهداف المصلحية، بحيث تكون وظائفها ذات طبيعة كفاحية وتدافعية، بمعنى أنها ليست دولة الوضع الراهن، وليست دولة التوازنات الأبدية. وإنما هي تتحرك بشكل إيجابي وفاعل لتحقيق أهدافها الحضارية. أما على المستوى الداخلي فإن التوازن بالدولة الإسلامية يتحقق بالأساس من خلال الرقابة المجتمعية المتبادلة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وليس من خلال قوى القهر أو المؤسسات التي تحتكر استخدام العنف.وفى إطار النموذج الإسلامي يستقل التقدم السياسي عن التقدم الاقتصادي، فلا توجد علاقة شرطية بين الأول وبين الثاني، ولا ينظر إلى التقدم الاقتصادي لأمة ما على أنه دليل على رقيها أو تحضرها، وإنما لابد من النظر إلى موضع القيم والأخلاق من تكويناتها السياسية.وإذا كان النموذج الحضاري الغربي للدولة قد قدم فكرة شديدة التجريد بالمعنى الأخلاقي أو الثقافي بحيث تبدو فيه الدولة منعزلة عن واقعها الثقافي وعن قيم مجتمعها، فإن الدولة الإسلامية هي في ذاتها تعبير عن مثل أعلى أخلاقي يمثله الإسلام نفسه، فالإسلام حتى وإن لم يتطابق مع نموذج سياسي معين، إلا أنه مثل أخلاقي متكامل، يوفر آليات الضبط الاجتماعي على المستوى الفردي والجماعي.وإذا كان الشكل الحديث للدولة يضمن لها استقرارا سياسيا إلا أنه لا يضمن لها الاستقرار الاجتماعي. كما أن لجوء الدولة للعنف لتحقيق الاستقرار يعد اختيارا غير عقلاني ففضلاً عن كون العنف ليس سوى مؤشر على ضعفها وهشاشتها، فإن العنف المبالغ فيه دليل على افتقار الدولة للدعم الأخلاقي والتربوي. وعلى العكس فإن الشكل السياسي للأمة الإسلامية، يفترض ربيع أنه يجسد المثاليات الأخلاقية والقيمية، ويضمن استقرارا سياسيا واجتماعيا في الوقت نفسه.يمكن إذن أن نلخص دعوة حامد ربيع إلى محاولته رد “الدولة الحديثة” ونظامها السياسي إلى حجمهما الطبيعي فالدولة ليست إلها يعبد من دون الله، ولكنها الإطار الذي يمكن من خلاله عبادة الله، ولكي تكون إطارا فاعلا يقترح ربيع أن تتطابق حدودها وحدود الأمة لكي يتسنى لها القيام بوظيفتيها الخارجية الموجهة للعالم أجمع، (قيادته والارتقاء بأخلاقه وقيمه)، والداخلية المتمثلة في إقامة العدل وتحصين المجتمع من الوقوع في براثن الاستبداد.