14 أكتوبر 2025
تسجيلشبكة الإذاعة الإيرانية الناطقة بالانجليزية أسهبت في تغطية خبر الأزمة الخليجية التي نشبت إثر القرار المفاجئ للسعودية والإمارات والبحرين بسحب سفرائها من قطر. ركزت تلك التغطية على أن هذه الأزمة ستقود إلى تفكك مجلس التعاون الخليجي وانهياره. وهو المجلس. بحسب تلك التغطية. الذي عانى دوما من خلافات وضعف في أسلوب صوغ الخبر هناك غبطة يسهل التقاطها بين السطور. مُضاف إليها قدر غير قليل من التفكير الرغائبي بأن تسير الأمور من سيء إلى أسوأ في البيت الخليجي. يكرر الخبر كذلك استخدام وصف "الخليج الفارسي" بشكل ملفت. وكأنه يحمل رسالة تقول إن أي تجمع إقليمي في الخليج لا تكون إيران على رأسه وتدمغه بالختم الفارسي لن ينجح ويجب ألا يقوم أساسا. بل إن اسم مجلس التعاون الخليجي باللغة الانجليزية Gulf Cooperation Council وهو الاسم الرسمي والدولي المعترف به والمستخدم عالميا يتم تعديله إلى Persian Gulf Cooperation Council. ربما لم نكن بحاجة إلى إشارة الإذاعة الإيرانية حتى ندرك أن إيران هي المستفيد الأول والمباشر من خطوة سحب السفراء التي فجرت الخلاف على السطح داخل البيت الخليجي العربي. وأن التمدد والنفوذ الإيراني المتواصل في المنطقة العربية. من العراق. إلى سوريا. إلى لبنان. إلى اليمن. ومعطوفا عليه جيوب التأييد هنا وهناك سواء في الخليج أو وراءه. هو المستفيد الأول والمباشر من إضعاف الجبهة الخليجية بل والعربية في وقت هي في أمس الحاجة إلى الاستقواء الداخلي. تداعيات هذه الخطورة قد تكون خطيرة وكبيرة وكارثية إن لم تتحرك رئاسة مجلس التعاون وتشتغل بكل جهد لاحتوائها. فالمجلس يواجه الآن أخطر تحد له. ربما منذ تاريخ تأسيسه في أوائل ثمانينيات القرن الماضي. وهو تحد يطال الأمن القومي لكل بلد من بلدان الخليج العربية بشكل منفرد. كما يطال أمنها الجماعي. ويضع دول المجلس أمام خيارين: إما الاحتواء الفوري للأزمة وتداعياتها، وإما فسح المجال عريضا أمام إيران لتخترق الخليج في منطقة القلب منه هذه المرة. وليس على هوامشه كما هي حال الاختراقات الإيرانية في العقود الماضية. ومما لا شك فيه أن صناع القرار ومنظري الإستراتيجية الإيرانية في طهران يفركون الآن أيديهم أملاً بأن تتفاقم الأزمة وتزداد توتراً. وينقسم مجلس التعاون الخليجي على نفسه. وتسير الأمور باتجاه السيناريو الثاني ليسهل الاختراق الذي لطالما حلمت به طهران. التحدي الكبير الذي يوجهه مجلس التعاون الخليجي يستلزم مقاربة دقيقة وعقلانية وهادئة بعيدة كل البعد عن ردود الفعل الغاضبة والعاطفية. وتعتمد على تقليب المسألة والنظر في اعتبارات كثيرة منها الآتية: الاعتبار الأول هو ضرورة إدراك وتعقل الدرس الإيراني في السياسة الإقليمية. وهنا يدفع العرب. خاصة عرب الخليج. ثمنا باهظا أن فات عليهم الدرس المتكرر في السياسة الإيرانية الإقليمية بكونها لا تضيع وقتا ولا تتردد في القفص واقتناص الفرص بشكل فوري. والمباشرة في تبني خيارات هجومية واستثمارية سياسية كلما لاحت لها فجوة محتملة في الجوار الإقليمي. وربما لن ننتظر طويلا حتى نرى توظيفا إيرانيا سريعا للأزمة الخليجي من قبل طهران. وستحوم ملامح هذا التوظيف حول تكريس الانقسام الراهن وتعزيزه عبر مد جسور "التعاون" و"الدبلوماسية" لتتموضع هذه الجسور في المساحة الفاصلة بين محوري الأزمة السعودية. الإمارات والبحرين من جهة. وقطر وإلى حد ما وعُمان والكويت من جهة ثانية. تشجيع بلورة هذين المحورين هو ما سيقع في قلب التوظيف الإيراني المُتوقع. لأن هذا معناه الإبقاء على فجورة الانقسام الفجوة التي ظهرت فجأة. ثم السهر على رعايتها وتوسيعها. الاعتبار الثاني هو ضرورة إيقاف الأزمة فورا وعند حدها الذي وصلت إليه. وعدم السماح لها بالتفاقم عن طريق القيام بأي إجراءات أخرى من قبل أي طرف. فتجميد الأزمة على ما هي عليه والحيلولة دون تدهورها هو الخطوة الأولى لبداية حلها وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه. وهنا علينا أن نقول إن رد فعل قطر على الخطورة كان حكيما وناضجا. إذ لم تتسرع بالقيام بسحب سفرائها من الدول الثلاث كرد ومعاملة بالمثل. وعدم الرد هذا يمثل إبقاءً الباب مفتوحا لأي جهود وساطة يجب أن تبدأ الآن وفوراً. وهنا فإن القناعة التي يجب تتملك الجميع تكمن في لا حل عملياً إلا بالحوار وإعادة ترسيم العلاقات والمواقف على أسس تعاونية وتكاملية وسيادية. سياسة إدارة الظهر والقطع لا تحل المشكلات. فهذه السياسة في عالم اليوم المتسم بالعلاقات الاقتصادية والسياسية والإعلامية المفتوحة والمركبة والمعولمة ليس لها من الناحية العملية تأثير كبير. الاعتبار الثالث هو إعادة تذكر إحدى القواعد الصعبة في مشروعات التكامل الإقليمي وهي صعوبة توحيد السياسة الخارجية والسياسات الأمنية. وتجربة الاتحاد الأوروبي تقدم الدرس الأكثر غنى في هذا الصدد. فهذه التجربة التي تعتبر رائدة تجارب التكامل الإقليمي في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية تقول لنا إن هناك جوانب في هذا التكامل يمكن تحقيقها والتقدم في إنجاز مستويات عالية في تنفيذها مثل الجانب الاقتصادي. والجمركي. وجانب تنقل الأفراد والبضائع. وجوانب أخرى متعلقة بالفن والتشريعات وحقوق الإنسان وغيرها. وفي المقابل هناك جوانب بالغة الصعوبة حيث يتسم التقدم في إنجازها وتحقيق مستويات ولو متواضعة فيها بالبطء والتدريج وأحيانا الجمود. وعلى رأس هذه الجوانب السياسة الخارجية المشتركة. وكذلك السياسات الأمنية الداخلية ـ وهذه تختلف عن الاستراتيجيات الكبرى التي تكون أحيانا هي الدافع الأساسي للتكامل الإقليمي. كالانخراط في حلف الناتو مثلا كإطار عسكري حام للمنظومة برمتها. لكن المقصود بالسياسات الأمنية هنا ما يتعلق بالداخل والمجتمعات والتهديدات "غير الوجودية". الاعتبار الرابع. وبالتأكيد ليس الأخير إذ هناك اعتبارات أخرى يمكن إضافتها. متعلق بمستقبل التعاون بين دول الخليج والأطروحات الأخيرة التي نوقشت في القمم الخليجية بشأن الانتقال من مرحلة "مجلس التعاون الخليجي" إلى "الاتحاد الخليجي". مستقبل تلك الأفكار الطموحة يجب أن يتم التمهيد له عبر مراحل وسيطة تعزز من التعاون والتسيس الخليجي الداخلي على أسس براغماتية ومصالح متبادلة. والأزمة الحالية تطرح بقوة ضرورة إيجاد آلية خليجية لفض النزاعات تكون فعالة وقوية وتقف إلى جانب التقدم للإمام عند الرغبة في الانتقال إلى أي مرحلة جديدة من التعاون. في السياسة والعلاقات الدولية والإقليمية لا تعتبر الخلافات شيئا نادرا أو مُستغربا. بل ربما كانت هي النمط الأكثر تسيداً. والسياسة أصلا هي حسن إدارة تلك الخلافات وتقليلها إلى الحد الأدنى وتفادي منعكساتها السلبية. الأزمة الحالية من هذا المنظور يمكن تحويلها إلى مناسبة لاجتراح مقاربات إيجابية وآليات مستقبلية تقوم على قاعدة احتواء الخلافات والسيطرة عليها وحلها. وعدم تركها للسيطرة على الحكومات والدول وبالتالي قيادة الجميع إلى المجهول.