16 سبتمبر 2025

تسجيل

يحدث في ليبيا

11 مارس 2011

قبل سبعة عشرة عاماً لجأتُ إلى أرض الغرب الواسعة وأعلنت خروجي على نظام القذافي. كان عمري عند قيام انقلاب القذافي في سبتمبر 1969 ثلاث عشرة سنة. انخرطت كمراهق (دون وعي سياسي يُذكر) في التظاهرات الشعبية المؤيدة للانقلاب التي عمت أنحاء ليبيا: مدناً وبلدات وقرى.. وجدتني شغوفا بالقومية العربية وأفكار التحرر العالمي والعدالة الاجتماعية. استهوتني الأدبيات الماركسية لكني لم أكن لأتحزب لها تنظيمياً. فمن تحزب خان في دولة "الأخ العقيد" وحيث الخائن جزاؤه الإعدام. ولسنوات (من 1969 إلى 1984) اعتقدت أن الانقلاب ثورة حقيقية والقذافي قائدها الفذ. كتبتُ مقالات مؤيدة (منذ 1980) لـ"الثورة وقائدها" حتى عندما انتابتني الشكوك في صدقية ما اعتقده وأكتبه. في العام 1984 هاجم مجاهدو "الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا" معسكر "باب العزيزية" بهدف القضاء على القذافي. فشلت المحاولة وقُتل العديد من المهاجمين وقبض على العديد الآخرين الذين تعمد القذافي عرض اعترافاتهم على شاشة تلفزيونه الثورجي من أقبية تعذيبهم.. ثم تعمد شنقهم في شهر رمضان في الساحات العامة وعرض عمليات الشنق على شاشة التليفزيون متقصداً أن يكون توقيت العرض بعد أذان المغرب مباشرة بحسبانه وقت ذروة المشاهدة بغرض ترويع الليبيين. عند تلك اللحظة المأساوية أستقر وعيّ على قناعة راسخة بأن "الأخ القائد" ليس سوى قائد عصابة من القتلة. لكني كنت خائفاً كغيري من غالبية الليبيين كي أفصح عن موقفي المعارض علناً. أمضيت السنوات من 1984 إلى 1994 لازماً تكتيك منافقة النظام عند اللزوم لضمان السلامة الشخصية والمهنية كشاعر وكاتب وصحفي. في نهاية العام 1994 حسمتُ قراري. قلتُ لنفسي في مواجهة مفصلية: أما أن أظل في جماهيرية القذافي الصاخبة في هذيانه العظامي شاهد زور سواء كتبُ أو صمتتُ، أو أن أتسق ضميرياً وفكرياً مع ما أؤمن به وما أريد أن اعبر عنه. وحيث أني أجبن من أنبس ببنت شفة معارضة للقذافي ونظامه وأنا في جماهيرته، خرجت منها وعليها نهاية العام 1994 لاجئاً إلى ألأرض الغرب الواسعة. العام 2000 ظهرت في برنامج الاتجاه المعاكس بـ"الجزيرة" وصحت في وجه القذافي عبر فضاء شاشة "الجزيرة":" حلّ عن سمائنا" مطمئناً لأمني الشخصي بوجودي في قطر بشعبها الطيب كحليب النوق وشهامة أميرها الجريء. في اليوم التالي سحب طاغية "الجماهيرية" الكافكاوية سفيره من قطر احتجاجا على ظهور معارض لنظامه وسحب مني جنسيتي الليبية.. والآن، في الأسبوع الثلاث من تأريخ ثورة أحفاد عمر المختار، تواصل ثورة 17 فبراير الشبابية، المدعومة بشعبها، دينامكية تفاعلاتها المتصاعدة فعلا بفعل في مسار استحقاقها المنشود: الخلاص من القذافي ونظامه بقضه وقضيضه شرطا شارطاً للحصول على ليبيا كما يريد لها شعبها أن تكون: بلاد حرة وموحدة كاملة السيادة وديموقراطية بمعناها ومبناها. قبل 17 فبراير بأسابيع تدفقت على إيميلي، كغيري من إيميلات المعارضين في الخارج، مئات الرسائل الإلكترونية الداعية إلى الثورة. شككت في أن شبيبة ليبيا سوف يتمكنون فعليا من تنزيل ثورتهم من واقع الانترنت الافتراضي لتصير ثورة حقيقية في الواقع الواقعي. المفاجئ أن الليبيين لم ينتظروا الموعود المضروب يوم 17 إذ خرجت في مدينة بنغازي مجموعة معارضين صغيرة يوم 15 فبراير ليلاً احتجاجاً على اعتقال المحامي والناشط الحقوقي فتحي تربل. وفي عصر 16 فبراير ناضل شبيبة البيضاء وفجروا الحالة الثورية في عاصمة إقليم الجبل الأخضر معقل "سيدي" عمر المختار. فكانت ثورة شباب 17 فبراير ثورة أحفاد عمر المختار بجدارة. كان القذافي وأبناؤه وكبار أعوانه على معرفة مسبقة بما يعد له شبيبة ليبيا الفيس بوكيون. لكنهم سخروا منهم وما ينوون على طريقة سخرية الفرعون مبارك وولي عهده جمال من ثورة شبيبة 25 يناير التي تحولت من افتراض إنترنتي إلى حقيقة تاريخية يعيشها الشعب المصري متحرراً بإرادة ثورته الشبيبية. الأمر نفسه يحدث في ليبيا. ولكن على نحو مختلف في شكل التحولات. القذافي أعلن على الشعب الليبي الحرب بالأسلحة الثقيلة فتحولت الثورة الليبية إلى حركة كفاح مسلح ضد القذافي ومرتزقته الأجانب الذين هم في منزلة الغزاة. مبدئيا ثورة الشعب الليبي ثورة شبابية. قام الأولاد الرائعون على إنزالها من الواقع الافتراضي إلى الواقع الواقعي بخروجهم إلى الشوارع بأجسادهم الشبيبة العارية مرددين:" الشعب يريد إسقاط النظام" شعار ثورة العرب الكبرى التي تفجرت في تونس وقفزت على ليبيا إلى مصر فأستدركها شبيبة ليبيا كي يربطوا حلقة الثورية العربية بين تونس ومصر في منظومة مترابطة في آلية سقوط أنظمة الاستبداد والتبعية على نسق تداعي أحجار الدومينو. صحيح أن ثورات العرب الناشبة لا تواصل تنظيمي وتخطيطي بينها في تونس ومصر وليبيا واليمن (والبقية تأتي) لكنها، في جوهر الفعل التاريخي، متساوقة في الأسباب والغايات بغض النظر عن التباينات الشكلية. وليس من الأسباب الجوهرية القول بالفقر والبطالة والفساد، وغير ذلك من ظواهر الأمور الرائجة. على أهميتها. إنها، في جوهر الفعل التاريخي، حركة ثورة العرب الكبرى الأصيلة (نافية إكذوبة الثورة العربية الكبرى بقيادة لورانس العرب وعملاء آل البيت). إنها ثورة العرب الكبرى كونها تستهدف أصل داء الاستبداد العربي المختزل في منظومة منطق المستبد العربي التليد:" إنّي لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها...".. وعليه فإن منطق ثورة العرب الكبرى المتوالية من تونس إلى مصر عودة إلى ليبيا بينهما هي في الجوهر التاريخي ثورة على المنطق المعاوي ثقافة وسياسة فإجتماع لأجل دخول العرب في حقيقة العصر الحديث بما هو عصر الدولة الحديثة بلا سيف دولة ولا سوط شرطة ولا لسان وزير إعلام أكذب من غوبلز. [email protected]