30 سبتمبر 2025
تسجيلاتفقت القيادات الفلسطينية في القاهرة مؤخرا على تشكيل حكومة وحدة وطنية وإجراء انتخابات فلسطينية. وبحيث تبدأ إجراءات التنفيذ كما أعلن بإصدار مراسيم رئاسية تحدد الآليات والمواعيد. وهو اتفاق يُرحب به بطبيعة الحال ويُرجى له مصيرا أفضل من الاتفاقات التي سبقته. السطور التالية تُناقش مسألة الانتخابات الفلسطينية وضرورة التأمل في "كيفية وآلية" القيام بها. وتدعو إلى "هندستها" مسبقا حتى لا تأتي بنتيجة تعيد الأمور إلى المربع الأول. وجزء من هذه الأفكار أوردتها في مقال نشر منذ عام تقريبا وعقب اتفاق آخر بين فتح وحماس على إجراء الانتخابات. وأعيد اقتباسها هنا. ابتدء يتوجب التوكيد على فكرة أساسية وهي أن المحافظة على الانتخابات الدورية في أي نظام سياسي هو أحد علامات سلامة وصحة ذلك النظام. بل وأساس ديمقراطيته. والديمقراطية هي أفضل "آلية" توصلت إليه المجتمعات الحديثة كي تتخلى عن منطق الاحتكام إلى القوة لفض الصراعات والتنافسات الداخلية. وهي مرة أخرى مجرد "آلية" وليست أداة سحرية لحل المشكلات والمعضلات التي تواجه المجتمعات. وهذه نقطة أساسية في فهم الديمقراطية (والانتخابات أيضا). ذلك أن كثيرا من الفهم السائد للديمقراطية خاصة في مجتمعات الانتقال الديمقراطي. أو مجتمعات الاستبداد. يخلع على الديمقراطية إمكانات لا تدعيها. فتحقق الديمقراطية ووفقا التصور التخيلي عند البعض سوف يجلب حلولا سريعة وقاطعة لكل المعضلات ودفعة واحدة: الفقر. البطالة. الفساد. العدالة الاجتماعية. مواجهة التدخلات الخارجية. الخ. وهي بهذا تتحول إلى "برنامج سياسي" أو أيديولوجية مطلوب منها تحقيق قائمة طويلة من المطالب التي تراكمت في عهود وعقود الاستبداد المنقضية.وواقع الأمر أن وظيفة الديمقراطية هي غير ذلك ولا تتجاوز توفير الأجواء الصحية والسلمية للبرامج السياسية والأيديولوجيات المختلفة كي تتنافس في ما بينها وتصل إلى السلطة. ووقتئذ. أي حال تسلم الظافر منها السلطة. يصبح مطلوبا منه تطبيق البرنامج السياسي الذي يريد من خلاله معالجة المعضلات التي تواجه المجتمع. وفي هذه المرحلة. أي مرحلة ما بعد الانتخابات. فإن دور الديمقراطية يتحول إلى تعزيز المحاسبة وترسيخ مجتمع الشفافية وإسناد القضاء المستقل والإعلام الحر بهدف محاصرة السلطة بالرقابة الدائمة وقطع الطريق على أي سوء استغلال للسلطة. يحدث ذلك في سياق سيادي دستوري ومستقل وضمن سيرورات سياسية طبيعية. وذلك كله مختلف عن الوضع الفلسطيني. فلسطينيا. تتم الانتخابات تحت سقف الاحتلال الإسرائيلي وفي غياب سيادة تامة. وفي ظرف تاريخي ما زال الشعب الفلسطيني يناضل فيه من أجل التحرير والحرية والاستقلال. وبهذا فإن "المشروع الديمقراطي" في فلسطين يواجه معضلات بنيوية هائلة لا يواجهها ذات المشروع في البلدان الأخرى التي تمر بعمليات انتقال ديمقراطي اعتيادية. لا يعني ذلك وبأي حال من الأحوال التسويغ لإدارة للديمقراطية والعملية الانتخابية في فلسطين. إذ رغم كل المعوقات الناشئة عن الوضع غير الطبيعي تبقى ممارسة "نصف ديمقراطية" أفضل ألف مرة من غيابها كاملة. لكن الوضع غير العادي يستلزم مقاربة مختلفة وغير عادية للديمقراطية وللانتخابات التي هي مكونها الأساسي. لا يتحرك الفلسطينيون في فضاء حر يستطيعون فيه ممارسة حرية الانتخابات وتخويل صندوق الانتخابات للقيام بحسم الصراع والتنافس السياسي الداخلي بطريقة طبيعية كما يحدث في أي وضع عادي آخر يتسم بالسيادة والاستقلال. العالم كله يقف على أطراف أصابعه إذا نظمت انتخابات فلسطينية. وكل طرف يستعد للانقضاض على النتيجة: إسرائيل. الدول الإقليمية. الولايات المتحدة. أوروبا. الأمم المتحدة. وهكذا. يصبح "صندوق الانتخابات الفلسطيني" كأنه صندوق عجائب. يخضع للمراقبة الدولية ونتيجته تؤثر في معادلات وسياسات وقد تقلب أمورا كثيرة رأسا على عقب. ما افرزه هذا الصندوق عام 2006. بفوز حماس في الانتخابات. قاد إلى حصار إسرائيلي قاتل لقطاع غزة لمدة سبع سنوات. ثم شن حربين عليها. وداخليا تسبب في انقسام فلسطيني مدمر. السبب الجوهري في ذلك أن العملية الديمقراطية وانتخاباتها تمت تحت الاحتلال وفي ظل غياب السيادة والتحرر. ما زالت الشروط البنيوية المسيطرة على الوضع الفلسطيني ذاتها: احتلال إسرائيل والتغول الدائم لغطرستها. تهديدات الولايات المتحدة. انحياز الغرب. الضعف العربي. إضافة إلى غياب السيادة الفلسطينية والإرادة الحرة التي توفر للفائز بالانتخابات المناخ الصحي والحر لتطبيق برنامجه السياسي. في الوقت نفسه هناك حاجة فلسطينية ماسة للانتخابات لأن الشرعية السياسية للوضع القائم سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة قد تهاوت إن لم نقل انتهت. فترة رئاسة أبو مازن انتهت منذ أمد. وفترة حكم حماس القائمة على شرعية الفوز بانتخابات 2006 انتهت هي الأخرى. وبالتالي هناك ضرورة ملحة لشرعية جديدة. لكن الخطورة هنا أن "صندوق الانتخابات الفلسطيني" قد يأتي بنتيجة تعيد تأزيم الأمور (نظرا للمعضلات البنيوية التي ذكرت) في الوقت نفسه الذي يؤسس فيه لشرعية جديدة. بمعنى آخر. ماذا لو فازت حماس مرة أخرى في الانتخابات. وبقيت مسيطرة على قطاع غزة. فما الذي سيختلف؟ وماذا لو فازت فتح في قطاع غزة. هل ستتخلى حماس عن بنيتها الأمنية وسيطرتها هناك؟ وماذا لو فازت حماس في الضفة الغربية؟ هل تستطيع في هذه الحالة إدارة الأمور والضفة كلها بشكل أو بآخر هي في قلب الحوت الإسرائيلي؟ كيف نعمل إذن على التمسك بالممارسة الانتخابية التي وحدها تمنح شرعية للسلطة القائمة. وتجذر الخيار الديمقراطي ولكن في الوقت نفسه نمنع الانتخابات من توريطنا في مأزق جديد؟ بعض الأفكار المطروحة فلسطينيا تقول بأن السبيل إلى ذلك يتمثل في الاتفاق المُسبق بين القوى المتنافسة. وتحديدا فتح وحماس. على مبدأ المشاركة وليس المغالبة بعد الانتخابات. أي أن يكون في جوهر اتفاق المصالحة توافقا على أن سلطة وحكومة ما بعد الانتخابات سوف تكون سلطة وحكومة ائتلافية تضم كل الأطراف ولا ينفرد فيها فصيل لوحده حتى لو فاز بالأغلبية. وهذه فكرة معقولة تحاول تدجين النتيجة الانتخابية مُسبقا. جانب الضعف الواضح في هذه الفكرة يتمثل في إمكانية عدم الالتزام بها بعد الانتخابات في حال اكتسح أحد الأطراف الانتخابات وأسكرته نشوة النصر. أو فشلت مفاوضات تشكيل حكومة ائتلافية. أو تطورت ظروف وضغوط خارجية تعيق تشكيل الائتلاف الحكومي المتفق عليه. الخيار الآخر الذي تطرحه هذه السطور للنقاش يبني على فكرة التحالف الائتلافي السابقة ويتمثل في "هندسة" العملية الانتخابية والسيطرة على نتيجتها مسبقاً حتى لا تنفلت بأي اتجاه غير ائتلافي. ويتم ذلك عن طريق خوض الانتخابات بقائمة وطنية موحدة عمودها الفقري فتح وحماس يتم الاتفاق عليها عبر الحوار والنقاش المُسبق. وتوزيع الأحجام والنسب. إذا اتفقت الحركتان على قائمة موحدة وبرنامج سياسي مرحلي يقوم على توافقات الحد الأدنى فإن نتيجة الانتخابات لن تحمل أي مفاجأة إذ ستفوز بها "قائمة الوحدة الوطنية". الاتفاق المسبق على مثل هذه القائمة (وحتى على الحكومة الائتلافية اللاحقة) سوف يوفر الوقت الكافي لدراسة كل عناصر المعادلة السياسية الداخلية والإقليمية وردود الفعل المحتملة من كل الأطراف. والاستعداد لها والالتفاف عليها. وبحيث تتفادى أي مطب مستقبلي سواء من المقاطعة الدولية. أو عدم الاعتراف. أو سوى ذلك. جانب الضعف الأهم في مثل هذه الفكرة أنه يفرغ العملية الانتخابية والديمقراطية من جوهرها التنافسي وربما يعود بالسياسة الفلسطينية إلى ممارسة "المحاصصة". وهو جانب يجب الإقرار به. لكن وفي الوقت نفسه توفر علينا هذه الفكرة التورط في مخرجات انتخابية قد تعيد تأزيم الوضع بدل أن تقدم حلولا له. الانتخابات الديمقراطية الحرة التنافسية هي النموذج الأساسي والصحيح. لكن اشتراطاتها في الحالة الفلسطينية غائبة. وغياب الاشتراطات لا يعني تفادي الانتخابات والتحول الديمقراطي لأن ذلك معناه الاستبداد والسلطوية. ثمة "منزلة بين المنزلتين" هي "هندسة الانتخابات" للاستفادة من شرعيتها. ولكن من دون المغامرة بفلتان نتيجتها في أي اتجاه تأزيمي. إنه حل "نصف ديمقراطي" لكنه يتناسب مع الوضع "نصف السيادي" الذي نحيا فيه.