18 سبتمبر 2025
تسجيلعشية زيارة الرئيس السوداني عمر البشير الأسبوع الماضي إلى جوبا عاصمة دولة جنوب السودان، سألتني إحدى الفضائيات العربية عن توقيع الخرطوم اتفاقا مع جوبا لتشكيل قوة عسكرية مشتركة لحماية حقول النفط في دولة الجنوب، ولم يكن وقتها قد تم إعلان ذلك بشكل رسمي، فقلت: إن السودان لا يمكن أن يقدم على ذلك ولو أقدم بحسابات خاطئة فإنه لن يعلن ذلك.. بعد ذلك سارت أخبار شبه رسمية وعلى نطاق واسع تشير إلى توقيع ذلك الاتفاق، قبل أن تنفي وزارة الخارجية السودانية ذلك وتقول إن الخرطوم اتفقت مع جوبا فقط على إرسال تسعمائة فني لسد النقص الحاد في مواقع إنتاج البترول بعد سحب شركات البترول العالمية موظفيها جراء النزاع المسلح بين رئيس دولة الجنوب سلفا كير ونائبه رياك مشار.. صحيح أن للسودان اتفاقا مماثلا مع جارته الغربية تشاد نجح في كبح جماح حركات تمرد دارفور التي كانت تنطلق من تشاد؛ لكن يبدو أن المسرح في دولة الجنوب يختلف كلياً عن المسرح في تشاد، وبالتالي يصعب نسخ التجربة في دولة جنوب السودان للتباين الكبير في الأسباب والمسببات. لقد ظل الجيش السوداني يحارب المتمردين في جنوب السودان لأكثر من خمسين عاماً بين أدغال ومستنقعات الجنوب دون أن يحقق نصراً حاسماً عليهم وانتهى الأمر إلى توقيع اتفاقية سلام في 2005 أفضت فيما أفضت إلى فصل الجنوب، وقال البشير في جوبا التي زارها لأول مرة كرئيس أجنبي، مشاركاً في احتفال الجنوبيين بتحقيق الاستقلال عن الشمال: (إن لم يحقق الانفصال السلام للشمال سنكون قد حققنا أكبر خسارة، إذ إن الشمال دفع ثمن انهيار الوحدة بين شطري الوطن الواحد مهراً للسلام).. وما إن استقل الجنوب حتى بدأت المناوشات بين البلدين التي وصلت حد الصدام المسلح ولم تهدأ إلا قبل شهور قليلة حتى اصطرع الإخوة داخل دولة الجنوب، وإن صدقت أنباء ذلك الاتفاق الذي نفته الخرطوم بشكل مرتبك، فإن الجيش السوداني سيعود مجدداً للمستنقعات الجنوبية بدعوى حماية حقول النفط.. والسؤال المُلح جداً: هل فقدان السودان لدريهمات رسوم عبور النفط الجنوبي بسبب الاقتتال القبلي الذي بدأ في الجنوب تستحق أن يتورط الجيش السوداني في صراع الأخوة في الجنوب؟ وهل يستطيع أن يحقق انتصارات بجانب طرف جنوبي ضد طرف جنوبي آخر؟.. وهل تمكن الجيش السوداني من القضاء على التمردات الداخلية، خاصة في دارفور حتى يعبر الحدود ليقوم بهكذا مهمة مستحيلة؟. لا ينبغي أن يقود القلق الذي أمسك بتلابيب الخرطوم بسبب الاقتتال الجنوبي – الجنوبي إلى مثل ذلك الخيار المكلف، وطالما رمت الخرطوم بثقلها إلى جانب الرئيس سلفا كير وفي ذلك خطأ إستراتيجي في رأي البعض، عليها أن تحصر دعمها في جوانب غير عسكرية وما أكثرها. بعد مرور أكثر من عامين على الانفصال بدا الوضع في الجنوب كارثياً ولم تتحقق أي مكاسب سواء للجنوب أو الشمال.. حينها قالوا إن انفصال الجنوب سيوقف حرباً استمرت لأكثر من (50) عاماً. وقالوا إن الانفصال وقد تم بطريقة حضارية وبوفاءٍ فريد لا تعرفه السياسة الدولية؛ سيكسب الخرطوم احتراماً دولياً وسيجعل واشنطن تطبع علاقاتها مع الخرطوم وتلغي العقوبات الاقتصادية وترفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.. وقالوا.. وقالوا. بيد أن الخرطوم حصدت الهشيم وجوبا لم تسعد بأمن ولا سلام ولا بحبوحة اقتصادية.. قبل أكثر من عام بثت قناة الجزيرة برنامجا وثائقيا أشار إلى أن الدولة الوليدة تفتقر إلى مقومات الحياة الأساسية، وأن فطامها من أمها جاء دون تجهيزها لأطعمة بديلة.. هذا ما قاله جوزيف لاقو لـ(الجزيرة) وهو قيادي جنوبي مخضرم وقائد سابق لحركة تمرد مسلحة، وكان (لاقو) يتجول في أسواق جنوبية تعتبر كبرى وهي تشبه مدن الصفيح، وتساءل لاقو عن معروضات استوردت من دولة مجاورة هي أوغندا، وردد حائراً: (ما في شيء مصنوع محلياً، كله من أوغندا؟).. في ذلك الوقت أدخلت أوغندا (200) شاحنة محملة بمواد غذائية وخضار منتهية الصلاحية!، فالجنوب بالنسبة لها حديقة خلفية تلقي إليه بمخلفاتها ونفاياتها.. رئيس تحرير صحيفة (سيتزن) الجنوبية شنّ هجوماً شاملاً على الدولة ووزرائها المفسدين، مسترجعاً طريقة اعتقاله بواسطة (16) مسلحاً بسبب كتاباته الناقدة.. الانفصال كذلك سلب الجنوب أصالة حق التمتع بالموانئ والإطلالة على البحر الأحمر ذي الأهمية الإستراتيجية، فالدولة الوليدة اليوم دولة مغلقة وهي نقطة ضعف كبيرة ودائمة.