02 نوفمبر 2025
تسجيلزار رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان خلال اليومين الماضيين اليابان. العلاقات بين البلدين جيدة والاستثمارات اليابانية في تركيا متعددة وآخرها مشاركة اليابان في بناء مفاعل نووي بعدما عملت على بناء أول نفق للقطارات وصل للمرة الأولى تحت الماء بين أوروبا وآسيا في مشروع عرف بـ"مرمراي". زيارة اليابان من جانب رئيس حكومة تركيا من النوادر في التاريخ التركي الحديث. لكن غالبا ما كان يشار إلى تركيا في العقود الأخيرة ولاسيما في التسعينيات على أنها يمكن أن تكون يابان الشرق الأوسط إذا تجاوزت الحاجة إلى النفط الذي تستورده بكثرة شأنها شأن اليابان.ولا شك أن القدرات البشرية في مجتمع فتي مثل تركيا والتخطيط الناجح لسياسات اقتصادية واستغلال العوامل الجيوبوليتيكية الممتازة على أفضل وجه تمكّن تركيا من أن تصبح قوة إقليمية قوية، بل حتى متوسطة القوة عالمية، فرنسا وألمانيا وإيطاليا، ليست أفضل منها إذا ما تضافرت عوامل النجاح.غير أن زيارة أردوغان إلى اليابان عكست أمرين – تحوّلين من المبكر الجزم بما إذا كانا واقعيين أو حقيقتين جديدتين.الأول هو أن أردوغان نفسه سئل من قبل أحد الصحفيين اليابانيين عما إذا كان لتركيا طموح أن تكون قوة إقليمية أو دولية وكان جواب أردوغان أن تركيا ليس عندها هذا الهاجس، لا أن تكون قوة إقليمية ولا دولية، بل هي تعمل ما يتوجب عليها من مسؤوليات إقليمية ودولية خارج السعي أو الطمع في أن تكون مثل تلك القوة.وفي هذا الجواب بعض التحول عما كان يردده المسؤولون الأتراك من أنه ليس من عصفور يطير في الشرق الأوسط إلا بعد استئذان تركيا، أو ما كان يردده تحديدا وزير الخارجية أحمد داود أوغلو من أنه لا يمكن رسم أي شيء في المنطقة من دون إرادة تركيا.كذلك كان داود أوغلو هو صاحب نظرية أن طموح تركيا أن تكون "لاعبا مؤسسا" في "نظام إقليمي" جديد وأن تكون قائدة شرق أوسط ترسم هي معالمه وتحدد خطوطه وذلك في خطبة وصفت بالعثمانية في أبريل من العام 2012. فهل نحن أمام إعادة حسابات تركية في الدور والموقع وأمام مرحلة جديدة من سياسة خارجية جديدة أساسها التواضع والتخلي عن الشعارات الكبيرة؟.الجواب قد يكون كذلك، خصوصا بعد الاهتزازات السياسية والاقتصادية التي أصابت الداخل التركي من مطلع الصيف الماضي وأدخلت حتى الشركاء الإسلاميين في الداخل في معركة "أخوية" دفعت أردوغان إلى إعادة النظر بالكثير من الخطوط الحمر التي وضعها في العلاقة مع المؤسسة العسكرية في اتجاه الانفتاح على العسكر لمواجهة خصومه السابقين والجدد على حد سواء.زيارة أردوغان إلى اليابان بعد زيارة مؤخرا إلى روسيا تفتح أيضا على تساؤل آخر لم يخفه أردوغان نفسه وهو أن تركيا تبحث عن خيارات إستراتيجية جدية بعيدا عن الاتحاد الأوروبي. وبالطبع هذه مسألة شائكة جدا، إذ إن أردوغان دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في اجتماع دولي مؤخرا إلى أن يحرر تركيا من الاتحاد الأوروبي.بل طلب أردوغان من بوتين أن يضم تركيا إلى منظمة شانغهاي للتعاون والتي تضم روسيا والصين وبعض دول آسيا الوسطى.ودعوة أردوغان هذه ليست جديدة، لكن تكرارها يخفي نزعة للابتعاد عن منظمة الاتحاد الأوروبي التي غالبا ما ينتقدها أردوغان ومن كانوا قبله من مسؤولين علمانيين وعسكريين ويتهمونها بأنها تلعب وتتلاعب بتركيا وتماطل ولا تريد أن تضم تركيا عضويتها لأسباب دينية ضمنا وإن كانت لا تعبر عن ذلك بصراحة.لكن الأتراك سرعان ما يعودون ليقولوا إن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يبقى الهدف الإستراتيجي لتركيا.وأيا تكن النوايا أو الوقائع فإن تعدد الخيارات أمام تركيا أمر جيد ويمكن لها أن تستفيد منها كلها في آن واحد.لكن الانسلاخ عن الاتحاد الأوروبي كفضاء للخيارات الإستراتيجية لتركيا أمر بالغ الصعوبة لما يترتب عليه من تغييرات إستراتيجية جذرية على النظام الدولي والتوازنات العالمية وهو ما لا يمكن لأوروبا أو الغرب السماح به، حيث إنها تريد إبقاء تركيا بلدا يدور في الفلك الغربي وهي البلد المسلم الوحيد على الحدود الأوروبية- المسيحية.وهي حقيقة تضغط أوروبا والغرب دائما على الأتراك لعدم تخطيها بمعزل من هو في السلطة في تركيا، لأن ثمن التحول الجذري لن يكون بهذه البساطة رخيصا.