17 سبتمبر 2025
تسجيلقبل استئناف الحديث عما يسمى بحروب الجيل الرابع، تنبغي الإشارة إلى ملحوظة مهمة تتعلق بكون النظريات التي توظف هذا المفهوم لا تتمتع باحترام كبير في الأوساط الأكاديمية الغربية، وللتقريب يمكن تشبيه القبول الذي تتمتع به بالقبول الذي يتمتع به المؤلف الشهير المعروف بـ"بروتكولات حكماء صهيون"، والذي هو في التحليل الأخير مجرد مجموعة من المقولات الشعبية ذائعة الصيت من دون أن يكون لها أي حجية أكاديمية معتبرة.هذا وقد ظهر مفهوم حروب الجيل الرابع في أواخر ثمانينات القرن الفائت، بمناسبة تفكير معاهد الأبحاث الغربية في طرق مواجهة الجماعات المقاتلة غير النظامية (مثل حزب الله وحماس)، ولكنه اكتسب شهرته مع مطلع التسعينيات بسبب التداعيات التي أثارتها حرب العراق، وما تزامن معها من هجمات وصفت بالإرهابية في العديد من دول العالم.وقد عرضنا في المقالة السابقة للمراحل الثلاث التي تفترض النظرية أن الحروب قد مرت خلالها، وتوقفنا عند المرحلة الرابعة، والتي تسمت النظرية باسمها، أي مرحلة الجيل الرابع من الحروب، وأهم ما تتسم به هذه المرحلة هو ظهور أشكال من القتال غير النظامي، القائم على إنهاك الخصم بطرق غير تقليدية. وتؤكد النظرية على فكرة أن الدولة، في المرحلة الحالية، لم تعد فاعلاً مركزيا فيما يتعلق باتخاذ قرار الحرب. فالجيوش النظامية للدول على امتداد العالم تقف منذ فترة ليست بالقصيرة وجها لوجه أمام جماعات مقاتلة لا تنتمي بالضرورة لدول مناظرة ولا تستخدم التقنيات التقليدية للجيوش النظامية.ويعكس هذا استخلاصا أهم، ألا وهو أن المتغير الحاكم في إطار الجيل الرابع لم يعد الانتماء إلى دولة وإنما إلى ثقافة. ويصرح منظرو حروب الجيل الرابع بوضوح أن الثقافة المعادية الرئيسة للعالم الغربي حاليا هي تلك التي يمثلها للإسلام. فالإسلام وفقا لهؤلاء بعد أن كمن في وضع دفاعي لمدة ثلاثة قرون، منذ فشل العثمانيين في حصارهم لفيينا 1683، يعاود الهجوم من جديد للتوسع على حساب العالم الغربي، ولكن هذه المرة من خلال تكنيكات جديدة، تسعى لتغيير المجتمع الغربي من داخله عبر التأثير على منظومة قيمه، ومن خارجه عبر شن حرب استنزاف بعرض العالم ضده لإقناع الساسة الغربيين باستحالة هزيمة الإسلام أو مهاجمته في عقر داره. ويعتبر منظرو حروب الجيل الرابع أن أزمة الدولة القومية هي كلمة السر وراء انتشار هذا النوع من الحروب، فهذه الأزمة هي التي دفعت الأفراد إلى البحث عن هويات بديلة، وعلى رأسها الهوية الثقافية، ولذا فإن أحد العوامل التي تمهد الطريق أمام هذا النوع من الحروب وفقا لأنصار هذه النظرية هو تلك الحالة من التعددية الثقافية التي تفتخر بها المجتمعات الغربية، والتي يمكن أن تنتهي بهذه الدول إلى حالة من الفوضى الكاملة. والحل الذي يقدمه منظرو حروب الجيل الرابع يكمن في التأكيد على النقاء الثقافي، وذلك بالانغلاق في وجه كافة الثقافات وعلى رأسها الثقافة الإسلامية التي تهدد كيان الدولة والمجتمع في الغرب.وبخلاف الانغلاق الثقافي في الداخل يتوجه منظرو حروب الجيل الرابع بعدد من النصائح إلى صناع القرار في الولايات المتحدة والعالم الغربي ياتي على رأسها إعادة التأكيد على أهمية المناورات باستخدام القوات الخفيفة، فحروب الجيل الرابع لا يمكن حسمها باستخدام الطائرات أو المدرعات أو أسلحة الدمار الشامل، ويلمح هؤلاء إلى أن أحد أسباب فشل القوات الغربية في تحقيق نصر حاسم في أفغانستان يرجع لعدم استيعاب هذه القوات للمفاهيم الجديدة للحروب، وإصرارها على مواجهة الجماعات غير النظامية بقوة النيران الهائلة والضربات الجوية، وذلك وفقا لمفاهيم الحرب التقليدية القائمة على التوسع على الأرض والتقدم دائما نحو الأمام. كما ينصح منظرو حروب الجيل الرابع القيادات العالمية الحالية، بإيجاد همزة وصل مع السكان المحليين، في الحالات التي تتضمن تدخلا عسكريا في بلدانهم، مع ما يتضمنه هذا من تقليل التعويل على الأنظمة الرسمية التي تتآكل شرعيتها بتآكل شرعية مفهوم الدولة الحديثة نفسه، ويحذرون في المقابل من أن الاستمرار في توظيف القوة الصريحة سوف يدفع بالمزيد من الأفراد إلى الارتماء في أحضان الجماعات غير الرسمية. ويؤكد هؤلاء على أنه حتى لو ترتب على ذلك النهج خسائر بالمفهوم التقليدي، كأن يفسر مسلك القوى الكبرى في هذه الحالة على أنه انسحابي أو تهادني أو حتى متخازل، فإن النتائج على المستوى الاستراتيجي أو على المدى البعيد تبرر مثل هذه الخسائر، خاصة أنه في إطار حروب الجيل الرابع فإن ميزان القوة ليس في صالح الدول الكبرى كما هو متصور ولا يقاس على أساس ما تمتلكه من قوة النيران فقط.من ناحية أخرى فإن التدخل العنيف عادة ما يساهم في تدمير الدول التي تتعرض لهذا النوع من التدخل، وهو ما يصب في مصلحة الجماعات غير الرسمية بطريقة مباشرة، حيث يساعدها على حشد قوتها ويكسبها المزيد من الشرعية في مقاومة القوات الغازية.ويظهر من العرض السابق لمقولات نظرية حروب الجيل الرابع أن المحتوى الأيدولوجي بها يفوق المحتوى التفسيري. فثمة أفكار مسبقة حول أهمية الثقافي على السياسي وحول الدور السلبي الذي تلعبه الجماعات الدينية تشوش قدرتها على التفسير، ولكن ليس هذا أسوأ أو أغرب ما فيها، فالغريب بحق أن من يتبنون هذه المقولات هم أطراف متضادة على نحو كامل، لدرجة أن البعض يفترض أن أبطالها هم الجماعات غير الرسمية من غير الدول كداعش وحزب الله على سبيل المثال (كما في الخطاب الغربي المتبني لهذه النظرية)، في حين أن آخرين يدعون أن مخططي هذه الحروب هم القوى الغربية الشريرة التي تستخدم الجماعات من غير الدول لخلق واقع جديد على الأرض (كما في القوى المعادية للربيع العربي في بلداننا)، على نحو ما سنعرض في مقال لاحق.