17 سبتمبر 2025

تسجيل

النموذج التركي ومعضلة الحركات الإسلامية العربية

10 ديسمبر 2011

يثير النموذج التركي إعجاب الكثيرين من الإسلاميين في العالم العربي بل باتوا يشيرون إليه كقدوة أو نموذج للمحاكاة إن لم يكن حرفيا فبجوانب كثيرة منه. بل تعدى الإعجاب إلى بعض رموز العلمانيين العرب. وهذا نلحظه عبر المواقف المتعددة التي صدرت من قادة هذه الحركات في تونس وسوريا ومصر ولبيبا والمغرب. لكن مقاربة النموذج التركي ولاسيَّما من جانب حركات الإسلام السياسي العربية تثير كثيرا من اللغط والخلط بحيث لا يبدو النموذج واضحا لدى هؤلاء لكي نقول بمحاكاته أو استنساخه أو حتى الاكتفاء باستلهامه أو، في المقابل، بمعارضته ورفضه. إن الاكتفاء بالنظر إلى النموذج التركي من خارجه دون الوقوف عند حيثياته وسياقاته التاريخية وتفاصيله التطبيقية على الأرض تجعل الحركات الإسلامية في العالم العربي تبني على الشيء غير مقتضاه. يقوم النموذج التركي على ركائز ثلاث: العلمانية والديمقراطية والرابطة الغربية. وسوف نتوقف هنا هند البعد العلماني من النموذج لأنه يشكل التحدّي الأكبر للحركات الإسلامية. مع أن السلطان العثماني قد سن قوانين وضعية تتعارض أحيانا مع أحكام الشريعة الإسلامية فقد بقيت السلطنة رمزا لنظام أساسه القيم الإسلامية. ومع انهيار السلطنة أقام أتاتورك منظومة جديدة أساسها القيم الغربية ولاسيَّما القانون المدني السويسري واعتمد العلمانية أساسا للنظام خارج أية قيم دينية. واستمر أساس هذا النظام نظاما للحياة السياسية والشخصية في المجتمع رغم تبدل الحكومات من علمانية مرنة إلى علمانية متشددة إلى إسلامية الطابع إلى إسلامية الجذور. ما هو ملفت أن الإسلاميين في تركيا جاءوا إلى النموذج ولم يأت هو إليهم. جاءوا إليه كأفراد لا كإسلاميين. بوصفهم أفرادا يصلّون ويصومون ويحجون لكنهم ينظمون حياتهم العامة وفقا لقوانين علمانية بالكامل. ويمكن القول بالتالي إن نصف إسلاميي تركيا حوّلوا الدين الإسلامي إلى مجرد علاقة بين الفرد والخالق وليس إلى منظومة حكم كما تقتضي التعاليم الإسلامية، تماما كما حوّلت العلمانية في الغرب المسيحية إلى علاقة بالخالق لا إلى منظومة للحكم. جاءوا إليه بداية مكرهين واستمروا به طوعا. لقد هذّبت العلمانية خطاب الإسلاميين وعندما انفردوا بالسلطة منذ العام 2002 لم يغيروا قيد أنملة من علمانيته الموجودة بل زادوه علمانية(تشريع عدم اعتبار الزنا جريمة يعاقب عليها القانون والسماح لجمعيات مثليي الجنس بالعمل) لكنهم لم يزيدوه إيمانا. لا يوفر النموذج التركي في بعده الإسلامي أساسا للحريات الفردية ولا يحمي الخيارات الإيمانية للفرد. فكان منع ارتداء الحجاب في الدوائر الحكومية وفي المدارس الرسمية وفي البرلمان. في حين يسمح بكل ذلك على سبيل المثال في أكثر من دولة علمانية غربية مثل كندا والولايات المتحدة. وكل قوانين الأحوال الشخصية تسير وفقا للقانون المدني المتعارض في كثير منه مع أحكام الدين الإسلامي. ومع أن الركيزة الديمقراطية تعتريها ثغرات كثيرة وأبرزها التضييق على الحريات وعدم الاعتراف بالهوية الكردية، ومع أن الرابطة الغربية يمكن النظر إليها كخيار سياسي للنموذج، فإن البعد العلماني من النموذج التركي يطرح معضلات كثيرة على الحركات الإسلامية في العالم العربي بحيث عليها أن تجد الجواب المقنع ما إذا كانت تؤمن بهذا الجانب من النموذج أم لا. وبالتالي ما إذا كانت بالفعل حركات لها صفة "الإسلامية" أم أنها في طور التحول لتكون نموذجا يحاكي النموذج التركي بالتفاصيل التي عرضنا. إن الحركات الإسلامية في العالم العربي لا تزال تستهل الإعجاب بالنماذج الخارجية في عناوينها الخارجية العامة فيما هذه النماذج لم تتبلور للتصدير إلى غير بيئتها، وما كان على الحركات الإسلامية العربية أن تستعير تجارب خارجية لم تمر بها المجتمعات العربية. إن من أوجب المسؤوليات الملقاة على عاتق الحركات الإسلامية في العالم العربي وفي كل دولة منه على حدة أن تخلق نموذجها المتناسب مع التطور التاريخي للمجتمعات العربية ومع التحديات التي تواجهها هذه المجتمعات. وهذه كلها في تركيا وغيرها في العالم العربي. والحركات الإسلامية ترتكب خطأ وزوغانا إن أرادت التطلع إلى الخارج، أي خارج، سواء إلى النموذج التركي أو غير التركي، خصوصا أن التراث الفكري المعاصر كما ورد في بيان ختامي لندوة عن العرب والأتراك عقدت سابقا في الدوحة، غني جدا بتيارات التجديد التي تصالح الهوية، بكل جوانبها، مع الحداثة، ولا تضعهما وجها لوجه.