21 سبتمبر 2025
تسجيلقد يصدم المرء من تصريحات رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي التي تفوقت حركته على جميع منافسيها في الانتخابات الأخيرة في تونس، فالغنوشي ومنذ إقامته في لندن ولحين عودته إلى بلده كانت مقالاته وكتاباته لعقدين من الزمن تتركز حول الاستبداد والديمقراطية والتعايش الإسلامي مع المتغيرات الثقافية والاجتماعية والسياسية. وبقدر ما كانت تلك المقالات تنبري للدفاع عن وجهة نظر الإسلاميين في القضايا التي يُتهمون فيها بالرجعية والإقصائية والاستعلائية بقدر ما كانت تثير تساؤلات جديدة ربما أكثر حدة من تلك التي كان يحاول الغنوشي الإجابة عنها في معرض دفاعه عن المشروع الإسلامي وضرورته في نهضة العالم العربي. ولعل تصريحات الغنوشي خلال زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة تذكرنا باجتهادات زعيم الحركة الإسلامية ومؤسسها في السودان الدكتور حسن الترابي الذي خرج بعدة فتاوى اعتبرها كثيرون خروجا عن المألوف في فهم النص الديني بل حتى خروج عن الإجماع الديني. وهنا لا نجرم الشيخ الغنوشي في فتاويه بقدر ما نرى أنها نهج جديد في الأداء السياسي لم يعتد عليه الإسلاميون سابقاً الذين كانوا يقرأون بشمولية ويهاجمون بشمولية ويتبرعون بإصدار الأحكام دون طلب، ما جلب عليهم الويل أكثر مما برأ ساحتهم، فجعلهم هدفاً للديكتاتور الداخلي الذي كان يسوق نفسه صمام أمان لحماية الأقليات ونشر الاستقرار، وهدفاً للخارج الذي كان يرى مصالحه أهمّ من دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان إذا كانت ستوصل إلى الحكم خمينيين جدد (نسبة إلى الإمام الخميني مفجر الثورة الإسلامية في إيران). الغنوشي أدرك هذه الحيثية، وأراد الاستفادة من إقصاء الإخوة عن أي عمل تقدم عليه حركته التي يتربص بها خصوم كثيرون لاسيَّما بعد فوزها في الانتخابات. وقد بدا ذلك جلياً على الشيخ خلال محاضراته في معاهد الدراسات الفكرية والسياسية في الولايات المتحدة. فمن تصريحاته الصادمة قوله " إن الناس أحرار في أن يغيروا دينهم" وأنه مع حرية تغيير العقيدة والدين للأفراد في بلاده حين سُئل عن قتل المرتد في الإسلام. وقد بدأ الغنوشي سياسياً من الطراز الرفيع حين أجاب بدبلوماسية ملفتة حول الأسئلة الحرجة التي انهالت عليه سواء فيما يتعلق بدعمه لحركة حماس والإشادة بها في مواجهتها للكيان الإسرائيلي جيشاً وشعباً أو فيما يتعلق بمهاجمته للسياسات الغربية الأمريكية والفرنسية في العالم العربي قبل عودته لتونس. ولدى سؤاله عن تصريحات سابقة له ضد وجود إسرائيل، وفيها إشادات بالعمل العسكري الفلسطيني، أجاب: "أود أن أركز هنا على تونس.. بلادي تعاني مشاكل كثيرة، وفيها مليون عاطل". بل بدا أكثر ذكاء وحدة حين قال إن الدستور الجديد في تونس (أي في ظل أكثرية حركة النهضة) لن يتضمن أي مواد تدين إسرائيل. وهذا تصريح أشبه بالنكتة إذ لا يوجد دستور في العالم تتضمن بنوده الحديث عن عدائية دولة أو صداقتها، وفقهاء الدستور يعلمون تماماً الحيلة الدستورية التي قام بها الغنوشي للهروب من إصدار الأحكام حول ما إذا كانت إسرائيل كيانا مغتصبا ينبغي تدميرها! وفي الإشارة إلى مدى انفتاح حركته على الأحزاب المخالفة إيديولوجياً قال الغنوشي: "إنه يشترك في مفاوضات مع أحزاب علمانية تونسية لإدخالها في الوزارة القادمة"، وأردف: "ليكون هذا دليلا بأن الإسلاميين يمكنهم أن يتعاونوا مع العلمانيين". لعل الغنوشي مازال مسكوناً بالأحداث الدموية التي عاشتها الجزائر بداية تسعينيات القرن الماضي حين انقلب الجيش على الديمقراطية وأوقف المسار الانتخابي الذي أوصل الجبهة الإسلامية للإنقاذ.. وسواء كنا نتفق مع الغنوشي أو لا فإن الأمور اليوم تغيرت ووصول الإسلاميين إلى الحكم لم يعد عليه فيتو غربي بدليل ما حصل في أكثر من قطر في زمن الربيع العربي. المعلوم أيضاً أن الحركات الإسلامية في المغرب العربي ربما تكون أكثر انفتاحاً مما هي عليه مثيلاتها في المشرق العربي حتى ولو كانت الأخيرة هي الملهم لسابقاتها. وبقليل من المقارنة بين تصريحات حركة العدالة والتنمية المغربية وحركة النهضة التونسية من ناحية وبين تصريحات السلفيين والإخوان في مصر من ناحية أخرى نجد فرقاً واضحاً في النضج التي تعيشه الحركات الإسلامية بين المشرق العربي ومغربه. وإذا كانت توصيات الغنوشي لإخوان مصر أن يشركوا في حكومتهم القادمة أقباطا وعلمانيين فإنه يدرك تماماً أن عملية الإقصاء والتبدل الجذري الذي كان ينادي بها سيد قطب رحمه الله لم يعد لها وجود في واقعنا المعاصر لمن أراد بالفعل أن يكون جزءاً من الحراك السياسي والاجتماعي للشعوب العربية. ومن هنا نفهم وجهة نظر الغنوشي التي ترى "أن دخول الإسلاميين في الحكومات يقلل تطرفهم".