17 سبتمبر 2025
تسجيلليس لي في الشأن الرياضي ذلك العلم أو الاهتمام، لكن ما يحدث الآن تجاه مسابقة كأس العالم المنتظرة بعد أقل من عشرة أيام في قطر، تجاوز الشأن الرياضي، وبلغ حداً لا أجد بالتالي ما يمنع من التحدث فيه، بل وأدعو كل من ليس له شأن في المسابقات الرياضية أن يساهم في بيان ما يجري وكشف النفسية الغربية الاستعلائية تجاه كل من ليس ينتمي للعرق الأبيض. تلك النفسية أو النظرة التي لم تتغير منذ العهد الاستعماري أو الاستدماري، رغم كل التطور العلمي والحضاري الذي يسود العالم من شرقه إلى غربه، وشماله إلى جنوبه. كل منصف وموضوعي، ولو لم يكن قطرياً أو عربياً أو مسلماً، لا شك أنه استاء مما يجري ضد قطر عبر حملات مكثفة، إعلامية وقانونية وسياسية وغيرها، بعد أن زادت ونشطت مؤخراً، فيما العالم المحب لكرة القدم يعد الأيام والساعات والدقائق لصافرة البداية، ويستغرب في الوقت نفسه من هذا التوقيت وهذا التآزر والتعاضد الغربي ضد قطر، ويتساءل عن الأسباب والدوافع. بغض النظر عن حجم المردود السياسي أو الاقتصادي أو غيره، الإيجابي منه أو السلبي على قطر، الذي أعتبره أمراً آخر ليس الوقت الآن لمناقشته وبحثه، فإنني أجد الحملات الغربية المثارة إلى يوم الناس هذا - وليست عندي ذرة شك – منظمة وموجّهة، لكنها ستهدأ بالضرورة مع صافرة البداية يوم العشرين من الشهر الجاري، لكن بعد أن تكون هذه الحملات قد حققت هدفها الرئيسي، وهو خلق أجواء من التوتر والقلق عند القطريين والمحبين لهم ليس أكثر، على اعتبار أن كل هذه الصيحات المتعالية والمتناثرة هنا وهناك، تأتي في الوقت الضائع، إن صح التعبير، لا تقدم ولا تؤخر من الواقع الذي سيفرض نفسه بعد أيام قليلة قادمة بإذن الله. كشفت لنا الحملات الغربية عن زيف ادعاءات دولها ومؤسساتها منذ عقود طويلة، والترويج على أنها راعية مبادئ وقيم وأخلاق ومُثُل، فإذا الحاصل هو العكس من ذلك تماماً. فلا يوجد أي تفسير لهذا الهجوم غير المبرر وغير المنطقي على قطر، سوى أنه ينطلق من نزعة استعلائية أو عقلية استعمارية لا زالت تحرك الغرب، الذي لم يتخلص منها إلى الآن، وإن كان قد نجح في إخفائها بوسائله المختلفة، الإعلامية وما شابه. العقلية الاستعمارية ما زالت حية إن العقلية التي تحرك الحملات التشهيرية والمغرضة، هي نفسها العقلية التي عاثت فساداً في القرن الفائت في إفريقيا وآسيا وغيرهما، وأهلكت الحرث والنسل، وجففت خيرات وموارد شعوب كثيرة، ما زالت مشاهدها عالقة بالأذهان. إن كانت الصحف البريطانية تتحدث عن حقوق العمال في إنشاءات الملاعب بقطر، فالتاريخ يذكر كيف ساقت عشرات الألوف من مستعمراتها في آسيا وإفريقيا لحفر الأنفاق وشبكات الطرق والقطارات، بالسوط والسلاح، وقضى الألوف منهم أثناء العمل. وإن كانت الصحف الفرنسية تصور لاعبي منتخب قطر على هيئة أفراد داعش، يحملون أسلحة ومتفجرات، فالتاريخ كتب عن آلاف مشاهد إجرام ووحشية الدولة الفرنسية في مستعمراتها، لاسيما الجزائر، التي قتلت فيها الألوف من الأبرياء، رجالاً ونساء وأطفالاً، بل ومازالت تحتفظ بآلاف جماجم المقاومين لها في متاحفها، لتكون شاهدة على إجرام ووحشية الدولة الفرنسية، سواء أدرك الفرنسيون ذلك أم لا ! وبالمثل يُقال عن الإعلام الألماني، الذي يشن حملاته على قطر بزعم قمع الحريات، لاسيما حريات الشذوذ الجنسي، في حين أن القانون الألماني ما زال يحظر الإنكار العلني لمحارق اليهود، أو حتى رفع شعارات النازية أو الحديث عنها ورموزها، بحجج أنها خطابات كراهية ! والحديث يتشابه كذلك عن الإعلام الأمريكي الذي مازال يردد أكاذيب وفاة آلاف العمال بسبب ظروف غير إنسانية، ويتناسى هذا الإعلام ضحايا الدولة الأمريكية، التي بلغت الملايين في أقل من قرن من الزمان، وبصورة تجعلها لا تستحق إدارة أي فعالية دولية صغيرة، فما بالك بالكبيرة.. والأمثلة أكثر من أن نحصرها ها هنا. هذه حضارتنا ونحن سادتها الغرب يريد أن يقول عبر مناسبات عدة إن الحضارة الحالية هي حضارته وهو من بناها وقام عليها. ولا أحد يشكك في ذلك، ودور الغرب في قيامها، لكن لا يعني ذلك بقاء السادة سادة وإن تغير الزمان والمكان، أو العبيد عبيداً. العالم يتغير، والغرب لابد أن يغير من عقليته وطريقة تفكيره ومنطقه. العالم النامي كان في طور النمو قبل نصف قرن، ولابد أنه نما وتطور وارتقى، وأنه لن يبقى على حاله، وهذا ما لا يريد الغرب استيعابه. فقد كانت المناسبات والفعاليات الكبيرة حكراً عليه لعقود عدة، لكن مع تطور الآخرين في الإدارة وفهم الواقع، خارج نطاق العرق الأبيض، فلم يعد غريباً أو مستحيلاً أن تتولى أعراق أخرى إدارة وتنظيم الفعاليات الكبرى على شاكلة كأس العالم لكرة القدم. لم يكن يتصور الغرب على وجه التحديد، أن تتولى مثل هذه الفعاليات الضخمة، دولة لا تُرى على الخريطة، وإن كانت أفعالها وتأثيراتها وسمعتها بلغت الآفاق في سنوات عشر ماضيات. فالأحجام في عالم اليوم، لم تعد عاملاً كافياً وحيداً للبقاء على قمم الإدارات، أو عنصراً كافياً لمنح الصلاحيات وتولي المسؤوليات. الغرب لا يريد أن يستوعب أن غير العالم الغربي بمقدوره منافسته في إدارة الفعاليات والأحداث الكبيرة بالعالم. هو يدرك أن كأس العالم ليست حدثاً رياضياً فقط. ولأنها ليست كذلك، هالها أمر تولي دولة عربية مسلمة شرق أوسطية زمام أمور أضخم حدث رياضي بالعالم منذ القرن الفائت حتى يومنا هذا، ومنافسته أو إزاحته عن حدث تسيل له لعاب الدول الكبيرة، لاسيما الغربية، ومعها لعاب شركاتها ومؤسساتها الاقتصادية المختلفة. خلاصة ما أريد أن أصل إليه، أو من فوائد ما يجري الآن ضد قطر، أن الإعلام الغربي كشف عن حقيقة دوله ومؤسساته للعالم، ربما دون قصد. فهكذا الأمور تجري في هذه الحياة. المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله. وهذا ما نشاهده الآن فعلياً وبصورة واضحة، تدفع المخدوعين بالنظم والقيم الغربية، إلى إعادة الحسابات. فالحضارة التي تخلو أو تتساقط عنها الأخلاقيات والقيم، واحدة بعد أخرى، إنما دليل على أفول نجمها، وقُرب زوالها. والأيام دول.