07 أكتوبر 2025
تسجيللم يخلق الله عز وجل هذه الدنيا ليخلد البشر فيها ويتنعمون بخيراتها أجلاً طويلاً، بل لتكون قنطرة أو جسراً لحياة أخروية خالدة، وكل من فيها خالدون، وإلى ذلك الخلود الحقيقي دعانا ربنا لنتنافس عليه، ونهانا أو حذرنا من التوجه نحو خلود افتراضي غير حقيقي متمثل في حياة قصيرة عاجلة زائلة.. ولا أجد من داع لشرح الخلودين. حياتنا هذه أو القنطرة التي نحن عليها، مليئة بالمحن والابتلاءات، وكلنا يدرك ذلك تماماً، ومصائب الدنيا أكثر مما نحصيها ونحصرها، والمحن تتنوع، مثلما تتزايد أيضاً وهذا أمر طبيعي، لماذا؟ لأننا نعيش - كما أسلفنا - في دار امتحان وابتلاء، وهذه من حقائق الحياة التي لابد أن نعيها ونتفهمها جيداً، كيلا نعيش في قلق وتوتر دائمين. حوادث الدنيا والمحن المتنوعة إن جاء وقتها، فلن تفرق بين أحد، الناس كلهم سواسية أمامها، لا تعرف فقيراً أم غنياً، قوياً أم ضعيفاً، مسلماً أم غير مسلم، وليس هذا هو المهم بقدر أهمية الكيفية التي يتعامل الناس معها، حياتنا الدنيوية إذن ما هي إلا جملة أو مجموعة اختبارات، من بدء التكليف حتى الممات، ليخرج الإنسان بعد ذلك بنتيجة محددة: إما نجاح وانتصار أو رسوب وإخفاق، ومنا من يوفقه الله إلى النجاح من محطة إلى أخرى من محطات الدنيا هذه، ومنا من يتعثر تارة في محطة وينجح أخرى، وفريق ثالث حياته كلها عثرات، وتنتهي به إلى إخفاق والعياذ بالله. إن تأمّل المرء منا حقيقة تلك الاختبارات أو الابتلاءات، فسيكون عاملاً مساعداً يبعث في النفس كثير هدوء وسكينة، كي لا يتألم كثيراً وطويلاً، باعتبار أن الجميع يمر بتلك الامتحانات والاختبارات، بغض النظر عن المستوى الاجتماعي والمادي وغيرهما، فالغني مثلاً يمرض كما الفقير، والثري يتألم كما المسكين، والكل يموت ولا فرق بين هذا وذاك وتلك، وهكذا.. ليس هناك تمايز بين البشر في اختبارات الحياة، التي لم يسلم منها حتى الأنبياء والأولياء، وكذلك الصادقون والصالحون، وحسن أولئك رفيقاً. لا تستسلم للفشل ما يهمنا في هذا السياق هو الذين يمرون باختبارات الحياة المختلفة، يتعرضون خلالها لمتاعب جمة وآلام مبرحة، فترى أحدهم وقد انتكس واستسلم للنتيجة أو الواقع، دونما بذل قليل من التفكر أو إعادة النظر والتأمل، من أجل البدء من جديد. لكن هناك بعض آخر على النقيض، فما إن يسقط أحدهم أو ينتكس أو يتعرض لكبوة، إلا وقد قام من جديد، من بعد أن يحزن ويتألم بعض الشيء، شأنه شأن أي إنسان صاحب مشاعر فطرية لا يمكن تجاهلها، لكن صاحبنا هذا لا يطيل البكاء على الأطلال أو اللبن المسكوب – كما تقول العامة – ولا يطيل أمد الحزن على ما فات، بل تجده بعد حين من الدهر قصير، وقد بدأ يدرس الماضي وفي الوقت ذاته يعيش لحظته، متعظاً مما فات ويرسم لما هو آت، ليقينه التام الراسخ أن قاطرة الحياة تسير منذ بدء الخليقة، ولن تقف له أو تنتظره إن هو توقف لأي سبب من الأسباب. هذه الحقيقة تدعونا جميعاً لعميق تأمل وتدبر.. فما نتعرض له من مواقف وانتكاسات وخسائر وهزائم، يجب ألا توقفنا وتؤخرنا عن مسيرة الحياة، لأن الخاسر الأكبر في تلك الحالة هو من يتقبل الهزيمة وينتكس أو يخضع ويركع للهزيمة، ومن يركع لغير الله فقد ذل وخاب وخسر. الابتلاءات تزيد أو تشتت الإيمان المسلم يتعلم منذ نعـومة أظفاره مسألة الإيمان بالقدر خيره وشره، وهي مسألة تجعل المرء المؤمن منا يطمئن إلى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فقد رُفعت الأقلام وجفت الصحف، ولكن غير المؤمن تهتز أركانه وترتجف أوصاله عند أول ابتلاء أو محنة، وبالتالي قد يضعف ويتشتت إيمانه أكثر فأكثر، تلك نقطة أولى. النقطة الثانية في مسألة الابتلاءات، أن المؤمن موقن تمام اليقين أنه يُثاب على أي مكروه يصيبه، حتى الشوكة يشاكها له فيها أجر، أجر الألم أولاً، وبعد ذلك أجر الصبر على الألم، وقد تعلمنا من ضمن دروس الإيمان أن المؤمن أمره كله خير، إن أصابه خير فشكر كان له أجر، وإن أصابه شر فصبر كان له أجر أيضاً. روي أن يعقوب عليه السلام في قصته مع أبنائه حين جاءوه عشاء يبكون أخاهم يوسف - كما جاء في تفسير القرطبي - قالوا له: فأكله الذئب، قال لهم: ألم يترك الذئب له عضواً فتأتوني به أستأنس به؟ ألم يترك لي ثوباً أشم فيه رائحته؟ قالوا: بلى، هذا قميصه ملطوخ بدمه، فذلك قوله تعالى (وجاءوا على قميصه بدم كذب).. بكى يعقوب عند ذلك، ثم جعل يقلبه فلا يرى فيه شقاً ولا تمزيقاً، فقال: والله الذي لا إله إلا هو، ما رأيت كاليوم ذئباً أحكم منه.. أكل ابني واختلسه من قميصه ولم يمزقه عليه! وعلم أن الأمر ليس كما قالوا وأن الذئب لم يأكله، فقال: بل زينت لكم أنفسكم أمراً غير ما تصفون وتذكرون، ثم قال توطئة لنفسه: فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون. يعقوب عليه السلام صبر صبراً جميلاً على ما حدث لابنه الصغير يوسف من لدن إخوته الكبار. في قصة مؤثرة أخرى، صبرت بالمثل، أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها – في قصة الإفك، حين ضاقت عليها الأرض بما رحبت، وظن كثيرون بها ظن السوء، حتى قالت: والله ما أجدُ لكم مثلاً إلا قول أبي يوسف قال (فصبر جميل، واللَه المستعان على ما تصفون). هذا هو الصبر المحمود، أو الصبر الجميل الذي سُئل عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صبر لا شكوى فيه". خلاصة الحديث المحن ما هي إلا أمور طبيعية في حياة البشر، تتنزل عليهم دون استثناء، وتتنوع في قوتها وطبيعتها، وإن كل ما ندعو إليه أولاً هو التضرع إلى الله في صلواتنا وخلواتنا، أن يلهمنا الصبر والقوة على مواجهة الشدائد، على اختلاف أنواعها إن وقعت، سواء في الجسم أو المال أو الأهل والولد، وأن نخرج منها ثانياً سالمين آمنين في الدنيا قبل الآخرة، ونأمل في الوقت نفسه كسب ثواب الألم في الدنيا قبل الآخرة، والله بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [email protected]