14 سبتمبر 2025
تسجيلحالات الاكتئاب ترافق دائماً الوجوه، وافتقاد التواصل، والإحساس بالوحدة قد يكون في البيت الواحد، والأسرة الواحدة وقد انشغل كل واحد بنفسه، مكتفيا بعالمه الافتراضي الذي فصله على هواه مبتعداً به عن كل من حوله! ويحاول البشر التلاقي من أجل الرفقة، يتعارفون من خلال أجهزتهم، أو المنتديات، المستشفيات، النوادي، اقتناء الكلاب والقطط، أو دور العجزة! ولعل دور العجزة قد أصبحت مطلب كثيرين من الذين استشعروا انشغال أولادهم عنهم، وعدم تفرغهم للعناية بهم، وقد عز عليهم خدمة أنفسهم، أو تناول علاجهم، أو طعامهم، أو استشعار الحرج من نظرات التأفف المكتومة، كثيرون من الآباء على امتداد الوطن العربي الجميل يفضلون مستشفيات العجزة ودفع رسومها عن شخط زوجة ابن، أو تأفف زوج ابنة، أو أي عيون تقول دون كلام ليس مرغوبا فيكم! كثيرون من الآباء يعانون وحدة عصية على الشرح لأوجاعها، قد تطل في نظرة ساكتة تحمل مرارة العالم، أو في ابتسامة باهتة مثقلة بأحاسيس الخزلان وقد أصبحوا بين أولادهم، وأحفادهم أحياء خارج الزمن، خارج الاهتمام، والسؤال، والإنصات، واللهفة، والأهمية، وتحولوا رقماً في عداد الأسرة لا حفاوة به، إذ كل ما عليهم أن يظلوا جلوساً في أماكنهم، أو أسرّتهم بانتظار الموت ليخلصهم من شعورهم بأنهم أصبحوا عبئا! وما أصعب هذا الشعور على قلوب آباء عاشوا العمر كله يبذلون الحب والحنان، والرعاية، والعناية، ويؤثرون أولادهم على أنفسهم دون تذمر أو شكوى!! أسألك، عندك أم؟ عندك أب؟ أرجوك حاول أن تسعد أيامهما الأخيرة بكلمة، أو ابتسامة، أو قبلة حنان، أو هدية، ليس لأن آباءنا هم بركة بيوتنا وكنوزها، وإنما لأنك قد تتألم طويلا وأنت تتبع جنازة أحدهما بوخز شعور بالذنب لأنك قصرت، وأهملت، وانشغلت، وأحياناً تأففت، وغضبت، وتعصبت، ولأنك ستتأكد بعد حثو التراب على قبر أصدق من أحبك أن الكنز الذي دفن لن يعود أبداً، ولن يمكنك استدراك ما فاتك من تقصير!! ما تقدم من مشاعر في مقالي هذا استدعاه مشهد أوجعني فوضعت على الورق ما اختلج في الروح من مشاعر، المشهد لأسرة تستعد للخروج في يوم العطلة لتناول العشاء في أحد المطاعم، الكل سيخرج، الأولاد، الأحفاد، ومعهم أيضاً الخادمة لترعى صغيراً لا تستطيع أمه الركض خلفه وقد تحرك، كان الأمر عند تلك الأسرة (عادي) لكن بالنسبة لي لم يكن (عادي) لأنهم سيخرجون ويتركون الجدة وحدها بالبيت، رغم أني أتصور أن كرسياً متحركاً تدفعه الخادمة يمكن أن يشرك الجدة بالصحبة العائلية، دون الشعور بالإقصاء، أو الوحدة خاصة أنها تستطيع المشي قليلاً إذا استندت على يد أحد، وفي ذات الوقت لن يكلف شراء كرسي متحرك للجدة شيئاً ذا بال لتخرج من شرنقة الوحدة وهي التي بذلت الحنان والرعاية والحب دون حساب، ربما مس كلامي قلبك الذي لم ينتبه أنه يمكن أن يقدم دفقات حنان تسعد كائناً ضعيفاً بلغ من الكبر عتياً، ياريت تجرب أن تكون الساقي وقد جف الماء، والمحسن وقد انزوى العطاء، والبار وقد علا صوت العقوق، والسائل عن المتعبين وقد عز السؤال! جرب أن تكون للذين أحبوك بسمة المحزونين الصامتين، المهمومين الدامعين، جرب أن تكون ضوءاً، ظلاً، بلسماً، رحمة، فرحة في زمن سافر فيه الفرح ولم يعد! * * * كلمات من القلب * إذا كانت قلوب كالورود تحيطك بالدعاء، والرجاء، فلا تخف ولا تحزن. * سيظل أجمل ما نهديه قلوبا صافية، ومحبة ضافية، ووفاءً لا يذبل. * * يا بختك يا لنجاوي * ما من مرة قابلني فيها بكريدور الإذاعة، أو الأستوديو، إلا ودس يده في جيبه ليخرج لي "بومبونايه، أو لبنايه، أو شيكولاتايه" ويقول مازحاً "اتفضلي يا ست هدى" ولما كنت أعتذر يتعمد أن يكلمني بالمصري "مترجعشي يعني مترجعشي" ثم ينتقل إلى تقليدي وأنا أحاور ضيفاً أو أقدم على الهواء فقرة، ويضحكني رغم الانشغال، أو العجلة، أو حتى الحزن، ثم يمضي موزعاً بومبوناته، وقفشاته، وضحكاته على كل مكتب يمر عليه وهو محاط بقافلة من الأطفال في طريقهم معه للأستوديو، وماما (أمينة) ليضج الأستوديو مهللاً لكل ما يقوله "أبو لنجا" حقيقة لم أفاجأ بعدد من تبع جنازته من كبار وصغار أحبوه؛ فلقد كان اللنجاوي على بساطته روحاً ودودة، وطفلاً كبيراً، ونفساً صافية لم تغادرها براءتها الأولى، وكذا كان يتمتع بسلامة صدر لا يخطؤها أحد، سافر اللنجاوي الذي كان يوزع الضحكات، كما يوزع علينا "البمبوني" غادرنا الرجل الباسم، البسيط، الطيب مصحوبا بحب الناس ودعائهم ليخطر على بالي ما قاله صلاح جاهين: هيجي اليوم وهكون ذكرى وناس تنسى وناس فاكره مين في الدنيا دي حيدوم ومين ضامن يعيش بكره اللهم ارحم زميلنا العزيز محمد اللنجاوي رحمة واسعة، واجعل آلام مرضه في ميزان حسناته، ومتع روحه بالسرور كما كان بسمة في دربنا. * * * طبقات فوق الهمس * كلما زرت المستشفى ورأيت وجع المتوجعين، وصبرهم، واحتسابهم، أدركت حجم تقصيرنا في شكر الله على نعمة العافية. * رغم الخراطيم المزروعة بيديها، كانت ترفع المصحف لتقرأ وردها، منظرها سؤال يقول يا أصحاب العافية، والوقت الطويل الفارغ من الذكر متى تنتبهون؟ * للصديقة الحبيبة "دانة" دعوات قلبية صادقة إلى الرحمن الرحيم أن يمن عليك بالشفاء العاجل، وأسأله أن تكون يده قبل يد طبيبك، ورحمته قبل مشرط جرّاحك، وأن يفيض عليك كامل الصحة وموفور العافية.. دعواتكم.