29 أكتوبر 2025
تسجيلمن تجاوز عمره الخمسين عاماً، ربما يذكر أننا قد عشنا في قطر مثل هذه الأيام المباركة في عامي 1983 و1984 حيث رمضان في شهر يونيو والعيد في الثلث الأول من يوليو. أما من تجاوز عمره الثمانين عاماً، فقد يذكر أنه عاش التجربة مرة أخرى في عام 1950. وفي حين أن الدولة قد بدأت تتشكل ملامحها في أواخر عام 1950 بعد تدفق أول شحنات النفط من دخان، فإنه لا وجه للمقارنة مع حال قطر في ذلك الزمان البعيد، ويبدو الأمر ممكنا فقط مع تجربة الأحوال مع عامي 83 و84.. فكيف كانت ملامح الحياة في تلك الفترة مقارنة بما هي عليه اليوم؟ كان عدد السكان في عام 1983 يتجاوز 300 ألف نسمة بقليل، يعيش نحو 200 ألف نسمة في الدوحة والريان، بينما يتوزع الباقون على المدن والبلدات الأخرى وخاصة الوكرة والخور. وكانت مدينة الدوحة بخطوطها الدائرية قد وصلت إلى الرابع فقط، حيث الطريق لمطار الدوحة بنسخته القديمة، وكانت مدرسة أحمد بن حنبل القديمة أهم المعالم على الطريق. ولم تكن هنالك منطقة الدفنة بأبراجها التي نراها اليوم، وإنما كانت البدايات في مبنى الشيراتون، وعمارة محلات السلام القديمة، وكان مستشفى حمد العام قد تم افتتاحه في عام 1982، بينما كان مستشفى الولادة لا يزال في مكانه القديم بجوار جسر الجيدة.وكان سعر النفط قد بدأ يهبط من أعلى مستوى وصل إليه عام 1980 وهو 40 دولاراً للبرميل، وبالكاد كانت دول الأوبك تحاول الإمساك به من خلال سياسة خفض الإنتاج، ولكنه في عامي 83 و84 انخفض فعلياً دون الثلاثين دولارا للبرميل. ولم يكن مشروع غاز الشمال قد رأى النور بعد، حيث تشكلت لجنته التسييرية عام 1984 لتنفيذ المرحلة الأولى منه لإنتاج 800 مليون قدم مكعب يومياً لأغراض الاستهلاك المحلي. الجدير بالذكر أن الالتزام بسقف الإنتاج قد خفض إنتاج النفط من قطر إلى نحو 300 ألف ب/ي، أو أكثر قليلاً وهو ما أضر قطر من زاويتين الأولى خفض الإيرادات العامة إلى أقل من 10 مليارات ريال، وخفض إنتاج الغاز المصاحب للنفط، فأضر ذلك بصناعة البتروكيماويات الوليدة، حيث انخفض إنتاجها في الوقت الذي انخفضت أسعارها مع تراجع أسعار النفط، ودخلت الصناعة في مرحلة تحقيق خسائر كبيرة.كانت مستويات الرواتب لا تزال منخفضة جداً مقارنة بما كانت عليه اليوم، فبعد سلسلة من الزيادات شبه السنوية في الفترة ما بين 1972 — 1982، كان مرتب فئة كبار الموظفين مع العلاوات يتراوح ما بين 10000 — 15000 ريال فقط، وكان إيجار الفيلّا الواحدة في حدود 4000 — 5000 ريال. وقد هبط سعر أونصة الذهب إلى 260 دولارا بعد ارتفاعه إلى 840 دولارا في فترة ارتفاع أسعار النفط. وكانت تكلفة المعيشة منخفضة جداً، حيث سعر الهامور أقل من 10 ريالات للكيلو، وسعر سيارة المرسيدس فئة 200 لا يزيد عن 45 ألف ريال، بينما سيارات الصالون اليابانية في حدود 25 — 35 ألف ريال. وفي حين كان القطريون — ولا يزالون — يتمتعون بكل مزايا الابتعاث الخارجي للجامعات، والعلاج في الخارج، والإعفاء من رسوم الكهرباء والماء، فإن المقيمين قد استفادوا أيضاً من بعض تلك الخدمات وخاصة لفئة موظفي الحكومة وشركات البترول. وخلال سنوات الثمانينيات كان يتم إرسال بعض أبناء المقيمين للدراسة في الخارج بوثائق سفر قطرية، وبمنح مالية تصل إلى 15 ألف ريال للطالب في الجامعات العربية سنوياً.كانت جامعة قطر جامعة وليدة عمرها أقل من 8 سنوات في عام 1983، ولم يكن هنالك أي من فروع الجامعات الأجنبية، وكانت الجامعة مفتوحة للقطريين، وللحاصلين على أكثر من 80 % من المقيمين، ولم يكن هنالك رسوم تذكر، أو أنها بمنحة ومكرمة أميرية. وقد تدرجت الرسوم في الارتفاع لغير القطريين مع انخفاض أسعار النفط بعد عام 1986 إلى أن وصلت الآن في حدود 40 ألف ريال سنوياً. وفي حين كانت تكلفة المدارس الخاصة ورياض الأطفال محدودة جداً ولا تزيد عن 1500 ريال — ما عدا المدارس الأجنبية —، فإنها الآن باتت مكلفة جداً، وربما يفوق البعض منها رسوم الدراسة في جامعة قطر. وكانت تكلفة الحج لبيت الله الحرام بالطائرة ولمدة أسبوعين لا تزيد عن 5000 ريال للشخص، وباتت اليوم تصل إلى خمسين ألفاً.هذا التغير الكبير في أنماط الحياة وتكلفة المعيشة يعود بعضه إلى عوامل خارجية بالطبع، ولكن معظمه يرجع لأسباب داخليه وأهمها التنامي السريع في عدد السكان ومن ثم ارتفاع قيمة إيجارات المساكن والمحلات التجارية. فحتى عام 2003 كان من الممكن أن تجد فيلّا بحدود 4000 ريال شهرياً، وشقة بنصف هذا المبلغ أو أقل، فضغطت الزيادة السكانية السريعة وأطلقت الأسعار من قمقمها... وقد ساهمت ثورة مشاريع البنية التحتية بعد عام 2010 في هذا الوضع، ولكنها تبدو والحمد لله على وشك أن تصل إلى نهايتها خلال العامين القادمين، فكيف سيؤثر ذلك على المعطيات السكانية، والمالية والاقتصادية والمعيشية في قطر؟