18 سبتمبر 2025

تسجيل

الكذب في رواية الشعر (1-2)

10 يوليو 2015

روي أنه اجتمع بدار المهدي الرواة والعلماء بأيام العرب وآدابها وأشعارها ولغاتها، وخرج بعض أصحاب الحاجب فدعا بالمفضل الضبي الراوية فدخل، فمكث ملياً ثم خرج ذلك الرجل بعينه فدعا بحماد الراوية، فمكث ملياً ثم خرج إلينا، ومعه حماد والمفضل جميعاً، وقد بان في وجه حماد الانكسار والغم، وفي وجه المفضل السرور والنشاط. ثم خرج الحسين الخادم معهما فقال: يا معشر من حضر من أهل العلم، إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حماد الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس فيها، ووصل المفضل بخمسين ألف درهم لصدقه وصحة روايته. فمن أراد أن يسمع شعراً محدثاً جيداً فليسمع من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل. فسألنا عن السبب فأخبرنا أن المهدي قال للمفضل لما دعا به وحده: إني رأيت زهير بن أبي سلمى افتتح قصيدته بأن قال: دع ذا وعد القول في هرم، ولم يتقدم له قبل ذلك قول، فما الذي أمر نفسه بتركه؟ فقال له المفضل: ما سمعت يا أمير المؤمنين في هذا شيئاً إلا أني توهمته كان يفكر في قول يقوله أو يروي في أن يقول شعراً، فعدل عنه إلى مدح هرم وقال: دع ذا، أو كان مفكراً في شيء من شأنه فتركه وقال: دع ذا، أي دع ما أنت فيه من الفكر وعد القول في هرم. ثم دعا بحماد فسأله عن مثل ما سأل عنه المفضل فقال: ليس هكذا قال زهير يا أمير المؤمنين، قال: فكيف قال؟ فأنشده: من الكامل المرفل: لمن الديار بقنة الحجرأقوين من حجج ومن عشرقفر بمندفع النجائب منضفوى أولات الضال والسدردع ذا وعد القول في هرمخير الكهول وسيد الحضرقال: فأطرق المهدي ساعة ثم أقبل على حماد فقال: قد بلغ أمير المؤمنين عنك خبر لابد من استحلافك عليه، ثم أحلفه بأيمان البيعة وكل يمين محرجة ليصدقنه عن كل ما يسأله عنه، فلما توثق منه قال له: اصدقني عن حال هذه الأبيات ومن أضافها إلى زهير، فأقر لهحينئذ أنه قالها، فأمر فيه وفي المفضل بما أمر من شهر أمرهما وكشفه. إن هذه القصة تثير قضية صدق ما جاءنا من شعر على وجه العموم ومن الشعر الجاهلي على وجه الخصوص، وهي قضية أثارها القدماء والمحدثون وكثر فيها الحديث، حيث نقل الدكتور ناصر الدين الأسد كثيرًا من آراء القدماء والمحدثين فيها، ونقل ذلك بتتبعٍ واستقصاءٍ متميز.ويعد كتاب طبقات فحول الشعراء أول كتاب تناول القضية بإسهاب، حيث تتبع مواضع الخلل في الرواية والرواة، وله نصوص أبان فيها عن ضياع جلِّ الشعر الجاهلي، فهو يقول:"وقد ضاع من الشعر الجاهلي الكثير ولم يحفظ من الموزون عُشْره، وقال: "ولا يحاط بشعر قبيلةٍ واحدةٍ من قبائل العرب". ونقل عن يونس ابن حبيب قول أبي عمرو بن العلاء:"ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علمٌ وشعرٌ كثير.وعن الوضع والانتحال في الشعر يقول ابن سلام: "في الشعر مصنوعٌ مفتعل موضوعٌ كثيرٌ لا خير فيه ولا حجة في عربيةٍ ولا أدب يستفاد ولا معنى يستخرج ولا مثل يضرب ولا مديح رائع ولا هجاء مقذع ولا فخر معجب ولا نسيب مستطرف وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب لم يأخذوه عن أهل البادية.ولم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حاجته وإنما قصدت القصائد وطول الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف وذلك يدل على إسقاط شعر عاد وثمود وحمير وتُبَّع.